لم تعد طبيعة الحياة العملية في وقتنا الحاضر تسمح للفرد أن يستمتع ببعض الوقت لاستعادة حيويته واسترجاع نشاطه؛ إذ تبقى ضغوط العمل تؤرقه في يقظته ومنامه وتلاحقه في أوقات راحته، وتطغى على أي نشاط ترفيهي يريد أن يقوم به. ولعل ما يزيد الأمر سوءًا أن لهذه الضغوط تأثيرات أخرى مباشرة وامتدادات نفسية تعكر تراكماتها صفو الحياة الخاصة وتصيب العلاقات الزوجية بالمرارة.
كتبت- صبحة بغورة:
تأثير طبيعة ونوع العمل على شخصية الفرد ووظائفه الحيوية والنفسية أمر ثابت وحالة مؤكدة، والأمر لا ينحصر فقط في تأثير كمية العمل وكثافة المهام وتعدد المسؤوليات، بل في نوعيتها وضغوط الواجبات المطلوبة لتحقيق النجاح، بمعنى حتمية اتباع كل ما يمكن أن يتم معه تجنب الإخفاق وتفادي الخسارة وعدم الفشل.
تأثير الوظيفة
إنها ضغوط متعددة ومزعجة تشغل البال. وتسبب الكوابيس من أمرين، الأول: ضرورة إنهاء المهام المنوطة وبكمية العمل المقدرة سلفًا مهمًا كانت التحديات، وفي الوقت المحدد لها. مهما كانت الظروف المحيطة ببيئة العمل، وبخلاف ذلك سيعد أن هناك تقصيرًا.
والثاني: أن تتوفر في العمل المنجز كل شروط إنجازه، وأن تراعى فيه جميع مقاييس نجاحه. وإلا سيعتبر أن ثمة عدم كفاءة أو أن هناك إهمالًا، وفي الحالتين سيتعرض الفرد للمساءلة وربما للعقاب الإداري.
كلما ارتقى الفرد في السلم الوظيفي، زادت أعباء مكانته الجديدة. وتضاعفت ضغوط العمل عليه، وقد لا تترك له في معظم الأيام فسحة زمنية للقيام بتلبية احتياجات أسرته أو الاهتمام بشؤون أبنائه. ويكون من أثر ذلك تشكيل مزاج سيئ ونفسية منهارة، سرعان ما تنتقل إلى الحياة المنزلية.
فالمزاج السيئ في العمل يشغل بال الموظف ويرهقه. ويمكن أن يهيج أعصابه ويثير غضبه، ولن ينتهي به الأمر بمجرد مغادرته موقع العمل، بل سيحمله بين ضلوعه ووجدانه إلى منزله وسيلازمه في فراشه.
الواقع حاليًا، أنه لم يعد تأثير التوترات الناتجة عن ظروف العمل المعقدة من جهة، وحساسية الصعوبات الناتجة عن الأجواء الأسرية الحرجة من جهة أخرى، ينظر إليه البعض من زاوية المسائل المتشابكة بين العمل والعائلة من حيث الوقت ومسؤولية إدارة شؤون الأسرة مثلًا، هي من تظل تشغل اهتمام الباحثين والمهتمين.
بل لقد انصرفت الدراسات إلى التركيز على التوترات التي كان لها وقع مباشر على نواحي أخرى من العلاقات الزوجية. كوقع المزاج السيئ على المشاحنات المنزلية، التي أصبحت تعد أكبر من وقع حجم العمل الذي يثقل كاهل الزوج الموظف.
زيادة ساعات العمل والمشاكل الأسرية
فالنتائج البحثية الميدانية، تؤكد أن زيادة ساعات العمل يمكن أن تخلق مشاكل تمنع تلبية المطالب الأسرية، ولكنها لا تؤثر مباشرة في حالة الموظف العاطفية. فالمعروف في كل الأوساط المهنية أن أي شخص. سواء كان رجلًا أو امرأة عندما يتزوج فهو لا يتزوج شريكة حياته أو تتزوج هي شريك حياتها فقط، بل تتزوج معه ويتزوج معها الوظيفة.
هذه الجملة الشهيرة تتردد كثيرًا في أوساط العمل المهمة، التي تتطلب حضورًا دائمًا واستعدادًا فوريًا، وتلبية سريعة، فمثل هذه المجالات لا تتحمل تأخيرًا أو تأجيلًا أو تقاعسًا. ولا يجوز أن يغادر الموظف موقع عمله إلا بعد أن يسلم المهام لمن سيخلفه في الموقع شخصيًا وحضوريًا. وقد يضطر أن يبقى في موقع عمله إن تأخر زميله عن الحضور في موعده.
لا ينظر الكثير من المستشارين في مجال حماية الأسرة بارتياح أو اطمئنان لوتيرة العمل الدائم على حياة الموظف والموظفة. لكونه يولد في المنزل شعورًا بالاغتراب النفسي بين الزوجين من جهة. وبين الأب المشغول دومًا وأبنائه من جهة أخرى.
فهو معهم جسدًا وليس معهم تفكيرًا ولا قلبًا، مما يمهد لحدوث فجوة بينهم لا يمكن تحديد توابعها النفسية والسلوكية.
ما بين الوظيفة والأسرة
وهناك من يلفت الانتباه إلى الاختلاف الحاصل بين من ينشغل كثيرًا في عمله لأنه يحبه. وبين من يضطره وضعه المادي المتواضع لذلك؛ لأن حياته تتطلب توفير مقدار أكبر من المال.
ففي الحالة الأولى، تصريح شديد الوضوح بأنه يضحي بالعائلة لأجل ما يحب. ولا يضحي بالوقت العائلي من أجل المال، وعليه يبدو أن التوازن الحياتي مطلوبًا من أجل حياة سعيدة.
ومن نافلة القول: إن البشر كلهم يعيشون أنماطًا حياتية مختلفة، باختلاف المكونات والأولويات والتفاصيل، ويبقى أن المطلوب هو السعي لكي يكون نمط الحياة فيه شيء من التوازن بعيدًا عن التخبط والفوضى والإجحاف أو التقصير في أي جانب من جوانب الحياة.
والسبيل لتحقيق ذلك أن يكون على كل شخص أن ينظم حياته ويعطي كل جانب فيه الوقت اللازم والمناسب، بحيث لا يقصر في واجبه نحو مهنته أو في حق نفسه أوعائلته.
وأن يحاول السعي دائمًا إلى تطوير عمله. وتحسين علاقته بأهله وأسرته وأصدقائه، وأن يخصص الوقت الكافي لإسعاد نفسه من خلال العطل والإجازات. بالبحث عن نشاطات وفعاليات تغير من روتين حياته وتضيف إليها شيئًا من الاستقرار والراحة ومع الشريك كثيرًا من البهجة والسعادة .