كتبت_ صبحة بغورة:
هل الفصام أو “الشيزوفرينيا” مجرد مرض عقلي يجعل صاحبه يتخيل أوهامًا لا وجود لها؟ أم هو اضطراب نفسي معقد يجر المصاب إلى هاوية من القلق، والوساوس القهرية، واضطرابات المزاج، والرهاب الاجتماعي؟
تشير الإحصاءات إلى أن مرض الفصام يصيب نحو 1% من الذكور والإناث الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35 عامًا. ويقدر عدد المصابين به عالميًا بحوالي 24 مليون شخص.
ورغم خطورته، لا يوجد حتى الآن سبب مباشر أو محدد يمكن الجزم بأنه المسؤول عن الإصابة، ويقود المرض غالبًا إلى حالة من انفصام الشخصية التي تتفرع عنها اضطرابات مثل ثنائي القطب، والاكتئاب، والتوحد، إلى جانب مجموعة من الأعراض التي تؤكد ابتعاد المريض عن واقعه، وعدم قدرته على التعامل معه بطريقة طبيعية.
ومن أبرز العوامل التي قد تزيد من احتمال الإصابة بالفصام، تلك المرتبطة بالبيئة والظروف الحياتية القاسية، مثل: الفقر الشديد، وتدني مستوى النظافة، وسوء التغذية، خصوصًا لدى النساء الحوامل.
إضافة إلى التعرض للفيروسات في أثناء فترة الحمل، أو نقص الأكسجين لدى الجنين عند الولادة.
كما أن إدمان المخدرات وحبوب الهلوسة، والضغط النفسي المزمن، والمشكلات العائلية والمهنية، مع ضعف القدرة على التحمّل، من الأسباب المهمة التي لا ينبغي تجاهلها.
كذلك، تتجلى أعراض الفصام في سلوك المصاب الذي يميل غالبًا إلى الانعزال الاجتماعي، والانفصال عن المحيطين به، حتى أقرب الناس إليه.
إذ يفضّل البقاء وحيدًا، منعزلًا في غرفته، رافضًا التفاعل مع الجماعة، أو الانخراط في فرق العمل أو المناسبات الاجتماعية.
وغالبًا لا يدرك المريض حقيقة ما يحدث له؛ ما يؤدي إلى تفاقم حالته وحدوث انتكاسات حادة.
علاوة على ذلك، تعد الهلوسات- السمعية منها والبصرية- من الأعراض الجوهرية؛ حيث يسمع المريض أصواتًا لا وجود لها، ويرى مشاهد غير واقعية.
إضافة إلى الأوهام التي تسيطر على عقله، كاعتقاده بأن هناك من يلاحقه أو يتجسس عليه، أو أن شريكه يخونه، أو أن أحدهم يضمر له الشر. كذلك يظهر اضطراب واضح في التفكير، من خلال حديثه غير المنطقي والمتناقض، وعدم ترابط أفكاره.
بينما تصاحب هذه الحالة مجموعة من الأعراض النفسية والسلوكية الأخرى، مثل اضطراب النوم (الأرق ليلًا، والنوم نهارًا)، سوء المزاج، الاكتئاب، العدوانية، انخفاض الأداء الأكاديمي والمهني، ضعف القدرة على التحليل الموضوعي، وتشتّت التركيز والانتباه.
كما يعاني المصاب من فقدان القدرة على الاستمتاع، وصعوبة في التعبير عن مشاعره، وقلة الحديث، والعجز عن اتخاذ القرارات، إلى جانب غياب الحماسة والدافعية، فيبدو غير مهتم أو مبالٍ بما يدور حوله، وغير قادر على بدء أو الاستمرار بأي نشاط.
أيضًا، تتفاقم خطورة الفصام؛ بسبب تأثيره العميق في التفكير والسلوك وضبط الانفعالات؛ ما يجعل المصاب عرضة للعزلة والانطواء التام، أو عرضة للأذى.
فالمريض قد يتبنى سلوكيات وأفكارًا انتحارية، ويقدم فعلًا على إنهاء حياته نتيجة غياب الإرادة، وانعدام السيطرة. كما يمكن استغلاله قانونيًا، من خلال التوقيع على مستندات خطيرة تمس ممتلكاته أو مصالحه دون وعي منه.
يتراجع عن التزاماته الاجتماعية والأخلاقية، ويبدو غير قابل للتواصل حتى مع الشريك العاطفي؛ ما يضع العلاقة الزوجية على المحك. ويصبح الطلاق أحيانًا خيارًا مشروعًا. خاصة عند غياب التفاهم، وانعدام التواصل، وخطورة استمرار الحياة الزوجية تحت هذا الظرف المؤلم.
ومن هنا تبرز أهمية العلاج المبكر والفعال. فترك المرض دون متابعة يزيد من حدة الأعراض والوضع تعقيدًا.
وأولى خطوات العلاج تبدأ بتجنب مسببات التوتر والقلق، وتوفير بيئة مستقرة وآمنة للمريض. بعيدًا عن النقاشات الحادة أو الضغط النفسي.
ويجب إحاطته بالرعاية والاهتمام، وتشجيعه على ممارسة أنشطة محببة يمكنه من خلالها تحقيق نجاحات بسيطة تبعث في نفسه التفاؤل والثقة. ومن المهم أيضًا التركيز على نقاط قوته ودعمه ليشعر بقيمته الذاتية وبحب من حوله له.
أما على صعيد الوقاية، فثمة فرضية علمية تقول: إن العوامل الجينية لا تتحول إلى أمراض. إلا عند توفر ظروف بيئية معينة تُفعّلها. ولهذا فإن التحكم في الظروف البيئية والنفسية، ومعالجة الضغوط والمشكلات اليومية بوعي، يعد خطوة جوهرية في الوقاية.
ولا يجب على الإنسان كبت مشاعره أو الهروب من مشكلاته، بل عليه أن يسعى لإيجاد حلول مناسبة، ويتخذ قراراته بعزم وحكمة.
كما يجب أن يتقبل طبيعة الحياة وتقلبات الناس، ويدرك أن مشكلته- مهما عظمت- ليست الوحيدة، وأن هناك دائمًا من يعاني أكثر، وعليه أن يوازن ذلك بشكر الله، على نعمه التي لا تُحصى.
ومن هنا، تبرز أهمية المرونة النفسية، وهي قدرة الشخص على تجاوز الأزمات والتعلم منها. بعض الناس يملكون هذه المرونة بالفطرة، وآخرون يكتسبونها مع الزمن والتجربة.
وهي تمثل حصنًا نفسيًا يحمي الإنسان من الانهيار، وتجعله يرى في المعاناة فرصة للنمو لا للهزيمة.
على الفرد أن يتقبل أن الألم جزء من الحياة، وأن يؤمن بقدراته، ولا يستسلم للظروف. التفاؤل، والتعاطف مع النفس، وضبط التفكير، والردود المتزنة في المواقف الصعبة. كلها أدوات فعالة للتعامل مع الضغوط. وتجنّب التصرفات المتسرعة أو المؤذية.
وفي النهاية، يبقى إدراك أن كثيرًا من المصابين يمكنهم- بدعم مناسب وإرادة قوية- أن يكونوا هم الأطباء لأنفسهم. وأن يتولوا علاجهم النفسي من الداخل. عندما يمتلكون الوعي الكافي والإرادة الصادقة.