إن تفاعل قطبي الذات والموضوع الخارجي المتقابلين والمتباينين يأتي بالإبداع حتى في الحالات التي يعتقد البعض بأنها تعبير شخصي بحت عن المبدع ذاته؛ أي إنَّ المبدع في هذه الحالة يجعل من بعض أفكاره ومشاعره موضوعًا مطروحًا أمامه؛ فينظر إليه من جانب ذاته، ثم يحدث التفاعل فيما بين الذات والموضوع الخارجي الذي تم استرجاعه وتذكره في نطاقه الذاتي؛ فينتج شيئًا آخر متعلقًا بالواقع الخارجي أو الأحداث التي وقعت في نطاقه.
الموضوعية
بيد أنه علينا ألا نخلط بين الذات والموضوع في النطاق الداخلي لدى المبدع؛ وذلك أن المتذكرات -أو الصور- التي يحتفظ بها المبدع في ذهنه تتصف بالموضوعية رغم أنها مجرد صور ذهنية، ولكنها تظل متمايزة لديه من قوامه الذاتي أو جوهر شخصيته المعبر عنها بـ “الأنا”؛ فلكل شخص كينونة ذاتية ثابتة ومركزية، بينما تظل الصور الذهنية المستمدة من الواقع الخارجي موضوعية وإن كانت موجودة في دخيلة المرء .
وعلى هذا لا ننفي أن تلك الكينونة الذاتية تنمو أو تتطور؛ لأن كل ما يستقطبه الذهن في هيئة صور للواقع الخارجي هي غذاء تقتات عليه الذات؛ أي إنَّ بعض تلك الصور الذهنية يكون صالحًا للهضم ويصبح من قوام الذات “الأنا”، ويبقى بعضها غير قابل للهضم ليصير في حالة موضوعية، سواء بقي عالقًا في الذاكرة أو خرج عن إطاره وطواه النسيان .
الفرق بين المبدع وغير المبدع
أما الفرق بين الشخص المبدع وغير المبدع؛ فيكمن في مدى القدرة على إحداث التفاعل بين الذات والموضوع؛ فالمبدع يتسم بصلابة ذاته وتماسكها؛ إذ تتباين قوة وتماسك وصلابة ذوات الناس من شخص لآخر؛ لأنهم يتصفون بـ “الأنا” وفي حالة من الضعف والتفكك، فضلًا عن أن ذوات البعض لا تستطيع أن تتغذى على الصور الذهنية المستقاة من الواقع الموضوعي؛ فبعضهم لديه القدرة على التذكر بشكل كبير، ولكنهم ليسوا قادرين على إحداث التفاعل بين ذواتهم وبين تلك الصور الذهنية المتذكرة، سواء تذكرًا معنويًا أو نصيًا؛ لتظل في ذاكراتهم مخزونة كما وردت لا يتسنى لها أن تتفاعل مع ذواتهم .
الصورة الذهنية
من هنا، نلفت النظر إلى أنه كلما تفاعلت الصورة الذهنية مع ذات المبدع، وقُيّمت تقييمًا غزيرًا ومتنوعًا وجيدًا؛ فإن عملية الهضم الخبري فيما بين ذاته وبين تلك التقييمات تكون أكثر فائدة وأكثر نجاحًا له. على أن المبدع ينفذ عملية فرز وانتقاء من بين تلك الانطباعات التذوقية التي يتلقاها من الواقع الخارجي؛ فمنها ما يصلح لاستيعابه ومنها ما ينبو عنه ولا يستسيغه أو يتقبله، بل يرفضه ويظل بمنأى عن نطاق ذاتيته كجسم غريب في دخيلته؛ فيتخلص منه بعد وقت قد يقصر أو يطول .
الإبداع التقني
وبما أننا تطرقنا بشكل غير مباشر لعملية الحفظ والتذكر فمن الأجدر ملاحظة أن “أجهزة الكمبيوتر وبنوك المعلومات ووسائل التسجيل والاستحضار” تم تجهيزها وتخزين شتى العلوم المتباينة بها مما لا يستطيع عقل بشر واحد أن يحمله أو يخزنه ويحفظه ويستعيده في ظرف ثوانٍ معدودة كما هو دون نقص أو زيادة وترتيب. وهذا الإبداع التقني المبهر للعقول وفر على الإنسان جهدين مضنيين؛ هما: “الحفظ” و”البحث في متون المناهل العلمية”.
ثمار إبداعية
من هنا علينا – ومن المفترض – ألا نعتمد إلى حد بعيد على ما تتفتق عنه عقول العلماء والتقنيين من الشعوب المتقدمة فنعيش على ما يقدمونه لنا من ثمار جاهزة؛ هي ثمار إبداعاتهم العلمية والتقنية، فنلهو بها كما يلهو الطفل بالدمية ويبدي انبهاره بها ، ولا يحاول المشاركة في إبداع الآخرين غربًا وشرقًا، بل علينا أن نستغل الوقت والجهد لتوظيف تلك المعلومات المتباينة فيما يخدم مجالنا؛ وبالتالي تتوفر لدينا ثمار إبداعية متكاملة.