أعلنت وزارة الثقافة المصرية أن عام 2025 هو “عام أم كلثوم“، بمناسبة مرور خمسين عامًا على رحيل أيقونة الطرب العربي.
هي الفنانة التي قيل عنها، حقيقة أو مجازًا، إنها الوحيدة التي جمعت العرب على صوتها. حيث كانت الأسر والأصدقاء يلتفون حول أجهزة الراديو من المحيط إلى الخليج. مساء الخميس الأول من كل شهر للاستماع إلى أغانيها، وفقًا لتقرير أعدته رويترز.
رحلة من الإنشاد إلى قمة المجد
ولدت أم كلثوم عام 1898 وعاشت 76 عامًا، بدأت خلالها مسيرتها الفنية في سن الثالثة عشرة كمنشدة للتواشيح الدينية. ساعدها حفظها للقرآن الكريم في سن مبكرة على امتلاك مخزون لغوي عميق. وقدرة متميزة على نطق الكلمات وإخراج الحروف بوضوح وصوت يجمع بين القوة والعذوبة.
عرفت بعدة ألقاب مثل “قيثارة الشرق”، و”شمس الأصيل”، و”كوكب الشرق”. حيث عاصرت مراحل سياسية مفصلية في تاريخ مصر. بدءًا من النظام الملكي وحتى الجمهورية، كما شهدت الحروب العربية الإسرائيلية. وكانت صوتًا حاضرًا في الأزمات الوطنية والقومية. وعلى الرغم من ارتباط فنها بالسياسة في كثير من الأحيان. إلا أنه لم تحظَ دراسة عميقة تركز على علاقتها المتشابكة والمستمرة بين الفن والسياسة.

إرث فني لا يزال حيًا بعد قرن من ظهوره
كما أكد النقاد أن أم كلثوم لا تزال تتربع على عرش الأغنية العربية رغم مرور أكثر من مئة عام على ظهور أولى أغانيها. فقد قدمت أعمالًا باللهجة العامية المصرية والفصحى، وتعاونت مع أبرز شعراء العرب قديمًا وحديثًا. إلى جانب أدائها للأغاني الدينية والوطنية والعاطفية وأغاني المناسبات.
وقال كريم (24 عامًا)، أحد رواد مقهى “أم كلثوم” بوسط القاهرة، بينما تتردد في الخلفية أغنية “أنت عمري”.: “مهما كانت الأغنية التي تستمع إليها، تحس أنها معمولة ليك أنت”. ويرى ميشيل مدحت (27 عامًا)، الجالس في المقهى نفسه. أن “اختيار الكلمات كان سر تميزها، لم تكن تغني أي شيء لمجرد الغناء”.
أما النقاد والمتخصصون فيرون أن أم كلثوم امتلكت “كاريزما” طاغية. كما يشير الصحفي سيد محمود من مجلة “الأهرام العربي”، موضحًا.: “كانت قادرة على التجديد والابتكار لأنها لم تكن معزولة عن عصرها. بل كانت تعرف أين توجد الجملة الجديدة وتتجه نحوها”.
كما أضاف محمود أن حضورها الطاغي في القاهرة جعلها جزءًا من الحياة اليومية لسكانها. حيث يمكن سماع صوتها من شرفات الجيران، سيارات الأجرة، أو المقاهي الشعبية. وهو ما لا يتكرر مع أي فنان آخر، “لأن حضورها لم يكن قائمًا على الصدفة”.
سر النجاح.. المثابرة والانضباط
كما أشار الفنان فاروق سلامة، عازف الأكورديون في فرقتها، إلى أن التزامها الشديد بالتدريب والبروفات كان أحد أسرار نجاحها الدائم. قائلاً: “كانت تقوم ببروفات لسبعة أو ثمانية أيام قبل الحفل. وبعد الحفل أيضًا. لم تكن تنسى كلمة أو تخطئ”.
من جانبه، يرى الناقد الفني محمود عبد الشكور، في مقال له بجريدة “الشروق”، أن أم كلثوم لم تكن مجرد مطربة. بل كانت “سيدة المونودراما الغنائية”، موضحًا أن “الطرب لا يشترط سوى الاستعراض الصوتي. أما الأداء الدرامي فيتطلب الإحساس والمطابقة بين المعنى والتعبير. وهو ما كانت تفعله ببراعة، حتى إن محمد عبد الوهاب قال إنها المغنية الوحيدة التي استطاعت التعبير عن القوة والضعف معًا في صوت واحد”.
كما أضاف عبد الشكور متسائلًا: “كيف يمكن أن تشخص أم كلثوم، صوتًا وأداءً، إحساس عاشقة في العشرين. بينما كانت تغني (يا مسهرني) وهي في السبعين؟!”
صوت حاضر في كل الأوقات
قالت داليا محمد (47 عامًا)، ربة منزل، إنها تستمع إلى أم كلثوم في جميع الأوقات. مؤكدة: “صوتها يرفرف على حياتي ويصاحبني في كل حالاتي المزاجية.. حتى وأنا أقود سيارتي وسط الزحام، أشعر أنني أحلق في الهواء بمجرد سماعها”.
كما أضافت: “أغانيها العاطفية لا تزال حية، وأعمالها الدينية مع رياض السنباطي ليست مجرد أغنيات، بل ملاحم خالدة”.
تكريم مستمر في العالم العربي
بينما حظيت أم كلثوم بتكريم رسمي وشعبي لم يسبقه فنان عربي آخر. فهناك إذاعة مصرية تحمل اسمها. كما تبث إذاعات وقنوات تلفزيونية أعمالها يوميًا، فضلًا عن إذاعات عربية ودولية. تحمل اسمها مثل “صوت الغد – كوكب الشرق” في رام الله.
بينما لم يقتصر ارتباط الجمهور بها على صوتها الفصيح، بل ازدادت العلاقة متانة بفضل أغانيها الوطنية. خاصة بعد نكسة 1967، حيث قدمت أعمالًا ترفع الروح المعنوية مثل “طوف وشوف”. و”مصر التي في خاطري”، و”مصر تتحدث عن نفسها”.
وعندما توفيت أم كلثوم في عام 1975، خرجت جنازتها الشعبية في مشهد غير مسبوق شارك فيه مئات الآلاف. حتى اعتبر البعض أن توديعها كان بمثابة تعبير عن التضامن مع مسيرة فنية حافلة.
كما علق محمود، أحد عشاق فنها، قائلًا: “المصريون يعتبرون أم كلثوم شريكة في انتصار أكتوبر، رغم أنها لم تغنِ خصيصًا لهذه الحرب. لكنها قدمت حفلات لدعم المجهود الحربي وإعادة بناء الجيش”.
إرث خالد يمتد عبر الأجيال
بينما لا تزال أغانيها تشكل جزءًا أصيلًا من التراث الفني العربي، مثل “الأطلال”، و”أنت عمري”، و”نهج البردة”. و”أغدًا ألقاك”، و”هذه ليلتي”، و”الحب كله”، و”ثورة الشك”.
كما تعاونت مع أبرز الملحنين، من زكريا أحمد وأبو العلا محمد، إلى محمد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وبليغ حمدي، وكمال الطويل.
لقد كانت أم كلثوم حالة فريدة، صاغتها نشأتها وتربيتها، وموهبتها الفذة، وانضباطها الشديد. وتضافرت معها الظروف السياسية والمجتمعية، فارتبطت بالوجدان العربي بشكل لا يتكرر، وجعلتها حالة تستعصي على النسيان.