يتصور البعض أننا حين نتحدث عن المريخ والزهرة، أننا سنتناول كوكبي المجموعة الشمسية التي تضم بجانبهما سبعة آخرين، ولكن على غير المتوقع سيأخذنا الحديث لعالم السياسة الدولية، ونعود للماضي مئات السنين لأساطير الرومان، والتى أشار لها المفكر الغربى روبرت كانمان حينما تحدث عن التغييرات الاجتماعية فى أوروبا، والتى ذهبت لأبعد مما ذهبت إليه الولايات المتحدة نتيجة للحروب والصراعات المستمرة والرغبة فى فرض النفوذ والهيمنة.
وفى هذا السياق، شبه كانمان الأمريكيون بالمريخ وهو إله الحرب فى الأساطير الرومانية، بينما شبه الأوربيون بالزهرة التي تمثل إله الحب والجمال فى تلك الأساطير. وربما قد تتبدل المواقع فى بعض الأحيان نتيجة للضغوط والمصالح المستهدفة لكن هذا التشبيه يظل الأقرب فى المجمل العام؛ حيث تظهر مساعي البلدان الأوربية لخلق جزيرة من السلام على القارة الأوروبية بعد أن دمرتها الحرب الفرنسية الألمانية ما يجعلهم أكثر ميلاً في حل الصراعات للجنوح إلى السلم، وهو ما يعزز الأهمية المتزايدة للقوة الناعمة الرافضة لقوة الحرب العنيفة باستخدامات قواها الصلبة بأشكالها المتعددة.
كما يؤكد ذلك القيم المشتركة حول ما يشكل السلوك المقبول فيما بين الدول الديمقراطية المتشابهة والتي تمثل علاقات ديمقراطيتها المتقدمة الميل إلى الزهرة.
وإذا كانت الإشكالية الدائرة ما بين الزهرة والمريخ ومن ينتمي لكل منهما على الصعيد الدولي، فيجب أن نفرق أنه فى عصر العلم والتكنولوجيا وتقدمهما؛ أصبح استخدام القوة يتطلب تبريرًا أخلاقيًا محكم الإتقان حتى يحظى على التأييد الشعبي.
إن استخدام القوة بوسائل الحرب المعتادة فقدت بريقها السابق رغم التقدم المذهل فى الشئون العسكرية، لذا؛ أصبحت الوسيلة الأيسر على تلك المجتمعات التي تمثل المريخ إله الحرب هى اللجوء للأنواع الحديثة من الحروب “الجيل الرابع والخامس” والمعتمد على القوة الناعمة والحرب النفسية بشكل مباشر.
إن القوة المفرطة في تناول الأسلحة العسكرية منها السلاح النووي الذي قيدت مفاصله نتيجة لمخاطره العديدة، بعد أن كان سلاحًا مقبول للردع؛ أصبح مجرد العصا التهديدية لكنها غير فاعلة، وأكبر دليل على ذلك هزيمة أمريكا فى حرب فيتنام رغم امتلاكها للأسلحة النووية. وكذلك عدم خضوع الأرجنتين لتهديدات بريطانيا النووية قبيل مهاجمة جزرها الفولكلاندية.
إذن تظل الحروب الدائرة جانحة للزهرة إله الحب والجمال بقوته الجاذبة، ونعني بالجاذبية مدى قوة ومشروعية النموذج، فيسهل محاكاته، واتباع أيديولوجياته برغبة ودون مقاومة وإنما بالخضوع لقوة الجذب عن طريق الإقناع بمسايرة أغراضك دون تهديدات، وبالفعل يتم تغيير أو تعديل السلوك فتكون الترجمة الحقيقية لجاذبية القوة الناعمة.
وها هو السلاح الذى يتم اختراقنا به الآن “الزهرة”، فما تمثله من حب وجمال نتكالب عليه وكأنه الجنة المنتظرة الموعودون بها، لكننا لا نعي أننا نُلقي بحتفنا في المهالك، فدائمًا ما يكون ظاهر الزهرة حسنًا براقًا وما تبطنه ألمًا ووجيعة وخراب.
المريخ والزهرة أسلحة للحرب؛ الغرض منها السيطرة والإذلال وفقدان الموارد وهدم القيم ومظاهر الحضارة، وكلاهما يمثل قوة حقيقية، لكن الأبعد أثرًا والأخطر ليس المريخ رغم ما نعتقده من تجلياته الواضحة وإنما الزهرة بمراوغته لوجدان الشعوب بطرح تجارب إيجابية والتوسع في ممارسة الحريات والديمقراطية وتوجيه خياراتها العامة وذلك استنادًا إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدل الاعتماد على الإكراه أو التهديد العسكري المباشر.
وهذه الجاذبية يمكن نشرها بطرق شتى، منها الثقافة الشعبية على سبيل المثال، أيضاً الاستخدام المخطط للتأثير على آراء وانفعالات ومواقف جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة لتحقيق أهداف أو سياسة معينة تركز على التغيير والتعديل في القيم واللغة والعادات، وتعمق من فكر الانقسامات الداخلية وزعزعة الثقة في نظام الحكم، كما تثير الفتن والنعرات العرقية والطائفية.
إن عناصر وأدوات القوة الناعمة تمثل سلاحًا خطيرًا تسعى إليها الدول الطامعة ذات النفوذ، وتتلهف لإحكام سيطرتها على عقول مواطنيها قبل أبدانهم.
هكذا نرى ما فعلته الهند بعد سقوط حكومة طالبان فى أفغانستان عام 2001؛ حيث أقلع وزير الخارجية الهندي آنذاك إلى العاصمة الأفغانية كابول على متن طائرة معبأة بالأشرطة السينمائية والموسيقية البوليودية، ولم تحمل الطائرة أغذية أو أسلحة أو غير ذلك، فكانت الوسيلة للتقرب من الحكومة المؤقتة الجديدة هو غزو المجتمع الأفغاني ثقافيًا وفكريًا من خلال القوة الناعمة بكل ما لها من تأثيرات وتهديدات خطيرة على المديين القريب والبعيد، لكننا للأسف لم ندرك مداها حتى الآن!.
كما يجب أن نعي قيمة موارد القوة الناعمة التي تتوفر لدى بلدان كثيرة، مع التفكير العميق في كيفية توظيفها وتوقيت استخدامها لتحقيق الأثر الفعال على النتائج المترتبة ومستوى سرعة الاستجابة من خلال مواردها الثلاث، وهي:
1-الثقافة وهى مجموع القيم والممارسات التي تخلق معنى للمجتمع، وتتمثل في الثقافة العليا من آداب وفنون وتعليم وثقافة شعبية تعمل على إمتاع الجماهير.
2-القيم السياسية التى تطبق بإخلاص فى الداخل والخارج فإما أن تعمل السياسات الحكومية لبلد ما على تعزيز قوته الناعمة أو تبديدها.
3-السياسة الخارجية التي تتبناها الدولة وبالقطع لها تأثير قوي على القوة الناعمة وخاصة حينما يراها الآخرون ذات سلطة معنوية وأخلاقية عالية.
لذلك، علينا أن نقدر قيمة موارد القوة الناعمة الذاتية ونعمل على تأصيلها وخلق استراتيجيات مجابهة للفكر الصهيوني التخريبي الذي نعاني منه تعاني منه الأمة العربية خلال العقود الماضية بمحاربتنا بسلاح الزهرة، والتي أعقبها بعد ذلك سلاح المريخ في بعض الدول الشقيقة، ولكن يبقى الخطر الداهم في آثار الزهرة وما لها من تبعات.
شعارات الحرية والديمقراطية كأعظم القيم الغربية يرى الغربيون دعمها خطأً استراتيجيًا وخاصة مع البلدان التي تتقاطع فيها مصالحهم، لكنها أغرقت وطننا العربي وصرنا دعاة لها في أحلام اليقظة ثم سنوات السبات العميق التي أيقظنا بعدها على انفلات مؤسسي وأخلاقي وطائفي تحت شعار ما أسموه أصحاب الأجندات “ثورات الربيع العربي” التي أزاحت الستار عن كل ما هو ردئ، وأعلنت تغييب العقول وتهويل السقطات في بحر الظلمات، لتسقط الضمائر المزعومة ودعاة الوطنية الزائفة، فتتهاوى لاهثة نحو أمجاد فقدت صلاحيتها مع استعادة الوعي والتنوير بقيم ترسيخ الهوية الوطنية الممتدة عبر الزمن، ونعلنها صراحة “تسقط تسقط حروب الزهرة والمريخ معًا”.