صبحة بغورة تكتب: لباقة الحديث.. أدب وفن وتربية

لباقة الحديث؛ هي فن الكلام وتهذيب اللفظ، وتعني التكلم بكياسة تعكس بصدق ليونة الأخلاق وأناقة الفكر، وهي من فروع الذوق الطبيعي السليم الذي يعتمد على حسن اختيار الألفاظ وعلى طريقة الكلام.

لذا، تعد لباقة الحديث من آداب الكلام، وثمرة الحضارة والمدنية المتطورة، وهي من صفات الشخصية الاجتماعية الحكيمة.

ويعتمد إجادة فن الحديث على مجموعة من الملكات الأصيلة في شخصية الفرد، وعلى المواهب المكتسبة من طبيعة البيئة السوية الأسرية والاجتماعية المحيطة.

كما يعتمد على الدروس المستفادة من تجارب الأجداد في أساليب التواصل وأصول التعامل، وعلى كنوز خبراتهم في مجال قواعد السلوك.

ويحتاج الأمر إلى اتباع قواعد تربية راقية في أدب الحديث، وسلامة التصرف وحسن السلوك، وفي احترام الذات والآخرين، فكلها مترابطة في إطار الآداب العامة. ترتبط ديمومة تطوير عمل الفرد واضطراد ترقية سلوكه بمدى ما يتمتع به من لباقة في الحديث.

هذه اللباقة تأتي من تربية أساسية منذ الصغر، تراعي تنمية الذوق الطبيعي في الروح والعقل والنفس، وعلى خلفية توخي الحرص والاتقان دائما في العمل والصدق والوفاء في التعامل، والتحلي بالالتزام كمعنى وجودي من أجل الحياة.

فلا يكون الشخص جلفا الأقرب إلى جفاء الطبع في عباراته، وليس كثير التملق الأقرب إلى النفاق في معاني حديثه، ولا أن يرتمي في أحضان الناس لكسب رضاهم بحديث انبطاحي في ذلة، ولا أن يؤدي في المقابل ترفعه عن الصغائر إلى التساهل المهين أو التكبر المشين.

قد يواجه محدود الثقافة صعوبة في الاشتراك في أحاديث ذات مستوى عالي، أو مواصلة حديث بدأوه بلباقة وذكاء؛ حيث لا يسعفهم تواضع مستواهم وقلة زادهم اللغوي وضيق أفقهم من تنويع عباراتهم بما يتوافق مع موضوع الحديث وأبعاد الموقف وطبيعة الظروف.

فالتقلب والتغير سمة أساسية في الكون ولكل حال موضوعه ومنطقه، ولكل مقام مقال، لذلك ترى بعض البلهاء يتجهون إلى التقليد الأعمى سواء في القول أو في الفعل؛ فيسبب لصاحبه الإحراج والأضرار ويجلب عليه المتاعب، وهذا لا يلغي فضائل محاولة الاندماج بين الأذكياء بحساب.

حيث يحضر الذهن ويعظم الاهتمام، وكل تطور في الفكر أو تقدم منهج الحياة إنما يتحقق بإخلاص النية وحسن الاستعداد، بمعنى أن من كان يريد أن يكون لبقا في الحديث عليه أولًا أن يكون مستعدًا للصفح الكريم عن الهفوات البسيطة والمسامحة الكريمة تجاه الأخطاء الصغيرة في حقه إن كانت بغير قصد الإساءة وبحسن نية.

أما إذا كانت بسوء نية، فيفضل غض الطرف عنها إن كان المخطئ أهون شأنا، أو يحسن المسامحة مؤقتا إن كانت ظروف المجلس ومناسبته لا تسمح بتوجيه اللوم والمؤاخذات لعدم إثارة ضجة تفسد أجوائه.

من المفيد أن يحسن الشخص موضوع الحديث بما يناسب مستوى ثقافة وتعليم الحاضرين والسامعين، ويكون حديثه بأسلوب ولهجة في حدود تتفق مع مداركهم ومعلوماتهم. والقاعدة أن من يريد أن يستمع إليه الناس، عليه أن يختار الموضوع الذي يحبون الاستماع إليه ويتفق مع ميولهم ورغبتهم.

من اللباقة، مراعاة الاعتدال في مدة الحديث، والأحسن اختصار المعنى في بضع كلمات بما قلّ ودلّ.

ومن أساسيات الحوار، أن يجيد الشخص الاستماع، فأدب الحديث ليس كله حسن الكلام وإنما أن يعي المرء أن القدرة على الإصغاء الجيد تزيد من جاذبية الشخصية.

وأهم مظاهر الإصغاء الجيد، عدم مقاطعة من يتكلم أو اللجوء لرفع الصوت عاليا بدلًا من رفع مستوى كلماته، والحديث للفت النظر وجذب الانتباه، أو لفرض فكرة سطحية أو لتأكيد معنى تافه.

من أسوأ آفات الحوار، التطفل القميء على خصوصيات الناس وأسرار حياتهم؛ حيث قد يبلغ الأمر مستوى استغلال نفوذ وسلطة أحد الحاضرين بعد التطفل على وضعه الاجتماعي للإلحاح عليه من أجل التوسط لقضاء مصلحة شخصية.

وهذا يعتبر في حقيقته سلوكًا شاذًا وغير مقبول ومنفر اجتماعيا، لأنه اعتداء على حقوق الغير بلا أي داعي وكشف فاضح لخصوصياتهم بدون مبرر، وقد أصبح هذا السلوك مثل الوباء.

فمثل هذا المتطفل لا يبالي إن ترتب على قيام أحدهم بالتوسط له الإخلال بواجب التحفظ والتصرف بما لا يليق بأهمية المسؤول ومكانته التي لا تسمح، فالمهم لدى المتطفل قضاء مصلحته هو وفقط. الالتزام بلباقة الحديث لا تعني الإخلال بالآداب العامة وبواجبات المرتبة الوظيفية والمكانة الاجتماعية، فالبعض يضع لباقة الحديث في إطار الخجل والتأدب الجم والصمت المبهم وعدم اللجاجة التي قد تفضي إلى التورط بحمق في الهموم والمشاكل.

والأكيد أن اللباقة لا تعفي الشخص من سرعة اعترافه بعدم استطاعته أداء عمل ما يتجاوز مقدرته، أو الاعتراف بخطئه بشكل مباشر وبدون مراوغة، فالرجوع للحق فضيلة.

يمكن توقع اللباقة في حديث أحدهم بعد ملاحظة مستوى اللياقة التي يتمتع بها في سلوكه وطريقة تصرفه كمؤشر دال على أناقة لسانه وأناقة فكره.

إنها ضوابط سلوكية تعتمد على معايير تربوية راقية، قائمة على أدب الشخصية وفن تعاملها الأنيق بنظرات فنية تقدر الجمال.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: رواد العرب في الفن التشكيلي (1 ـ 2)