صبحة بغورة تكتب: رغبات الأبناء بين الاستقلالية والتحكم

تتولد الرغبات لدى الطفل منذ صغره، وتترجم حركاته ولفتاته مدى تعلقه بما يريد، ثم تتشكل ملامحها مع بدايته في النطق وتتعدد صنوفها، وهي تتغير وتتبدل مع كل مرحلة سنية.

وتتفاوت رغبات الأبناء في طبيعتها بين طفل وآخر على حسب المستوى الاجتماعي والثقافي للأسرة والقيم السائدة فيها، ثم تتبلور خلال مرحلة المراهقة الحائرة وتهور الشباب في اندفاعه نحو الحياة إلى أماني جميلة تحمله إلى فضاء الكون الواسع يحلق بها في خياله.

رغبات الأبناء

ورغبات الأبناء في الصغر بسيطة، بريئة وساذجة مقدور عليها، ولكنها مع توالي السنوات تكبر ويكبر معها هم التفكير في تحقيقها؛ لذا تبرز أهمية تدخل الأسرة بالحوار لتهذيب الرغبات ولتحقيق التوازن المفقود لدى الطفل بين الممكن المادي والمستحيل المعنوي، وإظهار ما يكون قد خفي عليه من حقائق الحياة ومنها الهامش المتاح للرغبات.

لكن ما قد يحدث، أن يأخذ خوف الوالدين على طفلهم وحرصهم الشديد على مصلحته شكلًا من أشكال التسلط والسيطرة الذي يمتد إلى التحكم في كل تفاصيل نشاطه، والوقوف عائقا بدون أسباب واضحة ومقنعة أمام رغباته، ومنعه من القيام بتصرف معين ليلبي هذه الرغبات أو يحقق إحدى أمنياته حتى لو كانت مشروعة.

ويزداد الأمر سوءًا عندما يغيب عن الوالدين إدراك المتطلبات الخاصة التي تميز كل مرحلة من مراحل نمو الطفل، وإهمال بعض الاعتبارات الرئيسة في التربية التي يقوم عليها بناء الشخصية السوية، ومنها منح الاستقلالية بصفة متدرجة وتنمية الشجاعة الأدبية في إبداء الرأي، وإكساب فنون وآداب الحوار ومهارات تبادل وجهات النظر والتشاور.

كما يغيب عن الوالدين أيضا مساوئ اللجوء المستمر إلى طابع الإملاء في التعامل وعواقب القمع ونتائج المبالغة في فرض الرأي بدعوى أن طفلهما لا يستطيع أن يأخذ قراره بنفسه، ويحتاج دائما من يريه طريق الصواب.

الحقيقة أن الطفل سيكون فعلا بالشكل الذي يخشاه الوالدان إذا استمرا في إتباع نفس الأسلوب في التربية ولم ينتهوا عنه سريعا، فالطفل سيعاني من الضيق الشديد، ويشعر بعدم الثقة في نفسه، وسيتسلل إليه سلوك سلبي كالخوف والكذب، بالإضافة إلى إحساسه دائما بالحرمان وعدم الشعور بالحرية.

والملاحظ أن ظاهرة التدخل السافر في رغبات الأبناء وميولهم الدراسية، هي ظاهرة شائعة في معظم عائلات الطبقة المتوسطة، وهي طبقة دائما قلقة من وضعها الاجتماعي والاقتصادي، ومشغولة بمستقبل أبنائها من خلال التفكير في تحصيلهم الدراسي الذي يعني تلقائيا مستقبلها.

وتعتبر فترة الدراسة، هي المرحلة التي تبرز فيها تطلعات الأسرة لرسم مستقبل أبنائها، وغالبًا ما تكون هذه الفترة مغلفة بمظاهر التوتر والقلق المفرط بشأن نوع الدراسة وحول التخصص المهني، وهو يعبر في حقيقته عن انشغال طبقي على مستقبل الوضع الاجتماعي والاقتصادي للأسرة، كما قد يعكس تدخلها رغبة خفية الأسرة في تعويض إحباط سابق أو حالات فشل ماضية؛ كأن يتولى الابن منصبًا كان يتمناه والده في الماضي ولم يقدر، ويبلغ الأمر ذروته عندما يترسخ لدى الأسرة اعتقاد بأنه دون تدخلها لتحديد مصير الأبناء ستتراجع مكانتها الاجتماعية وستفقد هيبتها ووجودها.

ومع استمرار النزعة الأسرية والعائلية المفرطة في التدخل لتحديد رغبات الأبناء وتعيين وجهة الميول، يقع الأبناء تحت ضغط مسيء لشخصيتهم؛ حيث ينشأ الطفل في مثل هذه الظروف السلبية ولديه ميل كبير للخضوع وإتباع آراء الآخرين والاعتماد على الغير دون تفكير منه، وعدم قدرته على اتخاذ القرار لمستقبله، وعجزه عن التفكير الحر والإبداع لعدم تمتعه بفرص التفكير بمفرده بسبب إسراع الأسرة في التدخل بشؤونه وتزويده بالحلول الجاهزة؛ كل هذا يؤدي إلى تشكيل شخصية تتسم بالخجل والحساسية الزائدة لإنسان مسلوب الإرادة عاش تحت ضغط رضا الأسرة عنه.

الإدراك الواعي لسنة التطور وطبيعة التغيرات في الواقع، يعنى التفهم الجيد لضرورة التكيف مع متطلبات العصر ومستجداته، وهو السبيل للحيلولة دون حصول فجوة بين جيل الآباء والأبناء، فتقدير الأمر بما يتماشى مع الموضوعية والواقعية؛ سيقلص من مساحة الفجوة في الفارق الفكري بينهما، ويؤدي إلى تقارب نمط السلوك وأسلوب الحياة، وسيحقق مصلحة الأبناء ويعزز الثقة المتبادلة مع الآباء.

ومع تصاعد وتيرة التقدم العلمي وتسارع التطور التكنولوجي؛ تتصاعد وتيرة الحياة ويتسارع إيقاعها وجيل الأبناء هم الأكثر استيعابا لروح ولغة عصرهم، فنجدهم أسرع تفاعلًا وأسهل تجاوبًا مع منطقه؛ لذا فالمصلحة تقتضي تفهم سبب مسارعة الأبناء في محاولة تحقيق ذاتهم، وفي انفرادهم بالتخطيط لحياتهم واتجاههم للاستقلالية، وتفهم ميلهم إلى شيء من الترف أكثر مما تتطلبه الحياة العملية الطبيعية.

ولا يعد هذا من قبيل السلبية من جانب الأسرة، كما لا يعد تنصلًا من واجب مشاركتها اهتمامات الأبناء؛ بل من المفيد إظهار بعض التضامن الوجداني تجاههم والصبر في التعامل معهم، من خلال حسن الاستماع طويلًا إليهم، واحترام حديثهم، وتأكيد الاستعداد لتقديم المشورة النافعة لهم في كل وقت ومهما كانت الظروف، والمبادرة بإبداء الرأي السديد وتقديم النصح الرشيد كلما كان ضروريا وبكل اتزان وهدوء.

                                                                                                                                                                                                                                                                                  صبحة بغورة                                                                  متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: تقريب المسافات بين الأهل والمراهق