صبحة بغورة تكتب: خروج المرأة للعمل.. واجب وطني أم ضرورة اجتماعية أو حاجة ذاتية؟

أصبح غريبًا بل مستغربًا إذا سألنا سيدة عن عملها وأخبرتنا أنها ربة بيت فقط، ذلك لأن النظرة إلى المرأة قد تغيرت كثيرًا بعدما انتقلت من العمل المنزلي إلى العمل الوظيفي والمهني خارج منزلها، خاصة وقد تبين أن منهن ما لم تدفعهن حاجتهن المادية لمزاولة العمل خارج المنزل ولا يمثل مجرد كسب المال بالنسبة لهن الدافع الرئيس لذلك.

وفي أغلب الحالات، تشكل تعقيدات الحياة وتعدد الضرورات اليومية المتزايدة مع نمو الأطفال ظروفا موضوعية ضاغطة، تدفع المرأة إلى أن تجمع في اهتماماتها بين ضرورة مساعدة الزوج والاهتمام بشؤون المنزل وتربية الأطفال والاعتناء بهم وبدراستهم، وتحرص على تماسك أسرتها الوجداني والعاطفي وهذه نقطة بيضاء حقيقية في موضوعنا، ولا يضير بعضهن أن ينظر إلى عملهن من زاوية مجرد إثبات الذات وفرض الشخصية خاصة بعد بلوغ المرأة مراحل دراسية وعلمية متقدمة.

تكمن المسألة التي تبرر إثارة الحديث حول عمل المرأة خارج منزلها مجددًا، أنها لم تعد كإبنة وأخت وزوجة تشعر في عصرنا الحالي بأن عليها الانسحاب الطوعي من الاستفادة بمنجزات الحضارة الإنسانية والتمتع بفوائدها في معيشتها، كما أنها لم تعد مستعدة للتخلي عن تحقيق آمالها في الحياة بعد انتهائها من الدراسة، أو أن تتراجع عن أحلامها المهنية وتفقد وظيفتها بعد نجاحها في تثبيت مكانتها بالعمل.

ولم تعد تتقبل المرأة أيضًا، أن تبقى في المنزل تنتظر عودة زوجها وأولادها، بل هناك من لم تعد كلمة "أبناؤك بحاجة ماسة إليك" تؤثر فيها وتضعف قلبها كأم أو أن تثنيها عن عزمها الاستمرار في العمل، والحقيقة أنه لا يمكن أن ينكر أحد أن العمل في حد ذاته بالنسبة للمرأة ضرورة وذو أهمية كبيرة في تشكيل معالم شخصيتها المعنوية القوية ككائن اجتماعي منتج وفعال في مجتمعها وفي انعكاس نشاطها الحي وعملها المتواصل على اتساع أفقها ومداركها ووعيها لصالح أسرتها.

لكن، ماذا لو أخذت ظروف العمل وقت الزوجة؟ وماذا لو عادت إلى منزلها متعبة وقد نالت منها طبيعة عملها واستسلمت لقسط من الراحة أرادته دون إزعاج من أحد أفراد أسرتها؟، سيكون الأمر رهن تقدير وتفهم الزوج لظروف زوجته وحسن تعاون الأطفال مع ظروف أمهم المتعبة. عمل المرأة ظاهرة قديمة، فقد عملت المرأة إلى جانب زوجها في عدة مجالات وعبر تطور مختلف المجتمعات، بالإضافة إلى اهتمامها بتربية أطفالها، ولكن يبقى أنه من الأكيد أن المرأة تفقد الكثير سواء من أنوثتها أو من تأثير حضورها المطلوب وسط عائلتها إذا أثر عملها خارج البيت سلبًا على علاقتها بأولادها وزوجها.

وسيكون الأمر أكثر سوءًا، إذا أعطت لعملها الأولوية وليس لأسرتها، ولكن إذا تمكنت من خلال الحوار والتشاور بلوغ مستوى من التفاهم في حياتها الزوجية يسمح بتحقيق التوازن وصبغ الانسجام بين مقتضيات وظيفتها وواجبات عملها وبين متطلبات منزلها والتزاماتها تجاه أسرتها؛ فإن عمل المرأة خارج منزلها لن يؤدي بالضرورة إلى حدوث شقاق بين أفراد الأسرة ولن يؤدي إلى تأخر تطور الأطفال الجسدي والنفسي، بل قد يكون توفيقها في عملها خارج المنزل وفي مهامها داخله مصدر سعادة لها يمنحها القدرة على تجميع إرادتها لإعطاء الأولوية لأسرتها.

ومع ذلك، فثمة ما يدعو للتأمل في العلاقة بين طبيعة العمل ونوعه وبين مدى قدرة المرأة على الاستمرار في الأداء، والأهم في مستوى تحكمها بإدارة الوقت، فإدارة الوقت بمعنى التحكم في توزيع المهام والواجبات على ساعات الليل والنهار أصبح من الفنون الحياتية الضرورية والهامة جدًا فإذا كانت المرأة تستطيع أن تدير وقتها وتوفق ما بين متطلبات العمل والتزاماتها المنزلية والزوجية والاجتماعية؛ فإن عملها سيكون بلا شك مصدر استمتاعها بالحياة، وإن كانت ترى في العمل مصدر الإشباع الذاتي لها والراحة، فإنه سيكون دافعًا إيجابيا لها ولن يؤثر سلبًا على أسرتها أو على ارتباطاتها الأخرى.

أما في بعض المهن ذات الطبيعة الحساسة، كالعمل في السلك الطبي مثلا؛ فإن ثمة واجبات أساسية تؤثر على حياة المرأة نظرًا للمتطلبات الوظيفية ذات الطابع الطارئ والعاجل والخاص التي كثيرًا ما تتعارض مع الالتزامات الزوجية؛ لذا برز اتجاه يدعو إلى ضمان عدم تعرض المرأة إلى مضايقات في عملها بعدما بات من الواجب أن تكون حريصة وأن تتخير بدقة الوظيفة التي تناسبها مع الأخذ في الاعتبار الضوابط الدينية والاجتماعية و ضرورة مشاورة الزوج.

إذا كانت المرأة لديها القدرة على إدارة وقتها بصورة صحيحة، فسوف ينعكس ذلك إيجابيًا على أولادها، لأنها ستكون القدوة الحسنة لهم، ويمكن أن تنمي فيهم ثقافة الانتاج والفعالية، أما إذا كانت تهمل أولادها ولا تعطيهم الوقت الكافي بسبب انشغالها عنهم في عملها؛ فهذا سيعود بالطبع سلبًا على تربيتهم وتوازنهم النفسي وتطورهم العاطفي ونموهم الوجداني وحجم تحصيلهم المعرفي، وسيكون عملها سببًا مباشرًا في حدوث خلل أسري وشرخ كبير في تنشئة الأطفال وبناء شخصياتهم السوية، وسيزداد عمقا إذا لم يلقوا الرعاية التعويضية وافتقدوا مصدر الطاقة الوجدانية والعاطفية، لأنه حينها سيكون المجال ولا شك مفتوحًا لمعظم حالات الانحراف وجنح الأحداث التي ثبت أنها مرتبطة بظروف أسر افتقدت الأم فيها الدور التربوي الطبيعي.

وعن تأثير عمل الزوجة على علاقتها مع زوجها، فالثابت أنه حين يختل دور المرأة قد يختل دور الأب تلقائيا لأنه سيفتقد الرحمة والمودة والسكينة والاستقرار، لأن الزواج في أصله وأساسه شراكة ولابد أن يقوم كل طرف بدوره لتجنب الإساءة لتماسك الأسرة.

وبرغم ذلك، فليس كل الحالات متشابهة، فهناك الزوجة التي تعمل برضا الزوج وقبوله وتشجيعه لتسانده وتساعده ، وهناك من تعمل فقط من أجل إثبات ذاتها أو للتنافس مع زوجها أو لتلبي رغبتها في الاستهلاك المفرط والتبذير للتباهي بمشترياتها أمام الأخريات، وهو ما سيؤدي لا محالة إلى الشقاق وعدم التوافق وخلخلة تماسك الأسرة واستقرار الحياة الزوجية.

نحن أمام حالات تستدعي الكثير من التحاور المسؤول والتواصل الناضج بين الزوجين؛ ليكون كل شيء مبني على الاتفاق والرضا واحترام رأي الطرف الآخر من أجل أن يعود عمل المرأة على أسرتها بالخير.

الواقع حاليا، أن النساء في العالم يخضن معارك دفاعًا عن استقرار أوضاعهن كأمهات وضمان مكانتهن كموظفات في الوقت نفسه، وقد ساعدت التشريعات في الدول المتقدمة وفي معظم الدول السائرة في طريق النمو في تقديم الدعم من أجل التوفيق بين الأمرين، بمنح عطلة الأمومة مثلًا، وتخصيص مرافق خاصة في مكان العمل لرعاية أطفال الموظفات؛ لتحقيق التوازن، وهذا اعترافًا بقيمة عمل المرأة ومساهمتها الإيجابية في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو اعتراف عملي وقوي تسقط أمامه اتهامات بعض الشباب التي وجدت لها طريقا في بعض وسائل النشر والتواصل الاجتماعي أن عمل المرأة كان سببًا في ارتفاع نسبة البطالة لدى الرجال.

والمفارقة أن الكثير ممن يروجون لهذه المزاعم، كان مستوى تحصيلهم العلمي متواضعًا جدًا، ومستواهم الثقافي ضعيفًا ولم يرق في عمومه إلى ما تمتعت به بعض النساء من مؤهلات علمية عليا وخبرات عملية كبيرة تولين بفضلها مهمة إدارة الأعمال، وارتقين أعلى سلم الوظائف وتقلدن أرفع مناصب المسؤولية، فانعكس ذلك إيجابيا على تحسين أوضاع أسرهن وارتفاع مستواهن المعيشي.

اقرأ أيضًا: 7 قواعد إتيكيت حتى تكوني سيدة مجتمع راقية

طبيعي أن تتغير الأوضاع في كل الأسر حتى التي تتمتع بقدر كبير من الهدوء والاستقرار ببعض الاهتزازات، لكنها تبقى في إطار يمكن أن يكون محدودًا وأن تكون بعيدة عن أشكال الاضطراب والفوضى، فمن النساء العاملات من تجبرهن واجبات الحياة المهنية وظروف ارتباطهن بعملهن على ترك أطفالهن الرضع بعد انتهاء عطلة الأمومة لدى مرضعات وصغارهن لدى دور الحضانة ورياض الأطفال.

وقد تغير تقلبات الظروف المهنية نمط معيشة الأزواج الاجتماعية ،بالإقامة مثلا بعيدا عن البيت العائلي، مما يضطر الزوجة إلى البحث عن بديل عن الجدة والعمات والخالات، أو قد ينجحن في العثور على مربيات يقمن بالمنازل مضحيات بذلك بحوالي نصف مرتباتهن للتكفل بأطفالهن.

إنها ظروف الحياة والبحث عن الاستقرار؛ حيث تتنوع الظروف وتتعدد الأسباب التي تدفع المرأة للخروج إلى العمل تاركة أطفالها، فمنهن من خرجت للعمل لتأكيد الذات والإحساس بالكيان المادي المستقل والبحث عن المكانة الاجتماعية، وأخريات خرجن للعمل لمساعدة الزوج في مواجهة الأعباء والنهوض بالواجبات، فالعمل في كل الأحوال أصبح صمام الأمن والاستقرار في حاضر الأسرة وضمان مستقبل الأطفال.

يمثل عمل المرأة إلى جانب الرجل ضرورة وطنية من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة بالنسبة لبعض الدول التي تواجه اختلالا ظاهرًا في التركيبة البشرية لقوتها العاملة سواء بسبب تفشي ظاهرة شيخوخة المجتمع أو لغلبة الإناث على الذكور، أو لتمتع بعضهن بمؤهلات عالية المستوى في تخصصات حيوية ونادرة، كما أن عملها حق معترف به في صلب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأكدته الدساتير والقوانين الوطنية في إطار مبادئ العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة.

                                                                                          صبحة بغورة                                                                                                                                                                                                                                متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: عداوة الحموات والزوجات.. حقيقة أم افتراء؟