صبحة بغورة تكتب: البعد الاجتماعي لمعنى الرحمة في رمضان

الرحمة، عقد نفسي واجتماعي يهدف إلى ربط الصلات وتقوية الروابط وتعزيز الأواصر وإدامة العلاقات بين مختلف الكائنات، فيتم بذلك ضبط الإيقاع الروحي للفرد ومنه يتم توازن واستقرار المجتمع.

الرحمة هي سنة الله تعالى في خلقه؛ إذ أوصى بها الله تعالى عباده في كتابه الكريم منذ سمى نفسه عز وجل بها وذكر اتصافه بها "هو الرحمن الرحيم"، وعندما ذكر النعم التي يسبغها على من يتصف بها.

وقد أكد على فضائل الرحمة، الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أحاديثه النبوية الشريفة وفي سنته المطهرة قولًا وفعلًا، وحث عليها ديننا الحنيف لكونها قيمة سامية لا غنى للأفراد عنها، قيمة دائمة للسلوك الإنساني عامة، ومعناها في شهر رمضان، شهر الرحمة والغفران ذو خصوصية فريدة وتميز محبب لأنها تمثل في حقيقتها سموًا أخلاقياً وسلوكًا إنسانيًا راقيًا وقيمة شرعية مستمدة من معناها الاجتماعي العميق، كعاطفة فطرية تبعث على الاستمرار كثقافة وسلوك داخل المجتمع.

ومن هنا يمكننا أن ندرك مغزى أن تتضمن أحكام الشريعة كل ما يضبط كل تصرفات البشر ومواقف المؤسسات وسياسات الدول بقيمة الرحمة كمنطلق أساسي لكل توجه، وأرضية رئيسة لأي علاقة.

يصعب تصور حياة المجتمع في غياب الرحمة؛ إذ لن يترك ما هو متوقع من غيابها كتفشي الوحشية وغلبة القهر وانتشار الظلم أي مجال للتفاؤل بأي مستوى من الأمان أو السلام، لذلك فليس مسموحًا ممارسة الوحشية في المعاملة وليس مقبولا السكوت على الظلم أو القهر في التعامل، ومن أجل ذلك اتسع مفهوم الرحمة ولم يعد مقتصرًا على العاطفة فقط بل تحولت إلى اتفاقيات وقوانين وتشريعات صارمة في أحكامها ذات عقوبات قاسية للمتمردين عليها كتجريم التعذيب الجسدي والنفسي، وكل ما يتعلق بالتحرش والاستغلال، وكل ألوان الانتهاكات والتعديات على خصوصيات الأفراد.

في رمضان يترجم الملايين من عباد الله المخلصين أجمل المعاني الإنسانية تعظيما لهذا الشهر، من خلال المبادرة إلى إبداء ما أمكن من مظاهر الجود والكرم للصائمين المحتاجين، وأيضا غير المحتاجين من أفراد العائلة الكبيرة والجيران، إنها مشاعر التضامن الاجتماعي والتآزر بين الأخوة في الإسلام.

وقد انتشرت في المجتمعات الإسلامية "موائد الرحمن"، التي تقدم طعام الإفطار مجانا لتعكس مقدار وطبيعة النفحات الإيمانية العميقة التي تغشى المؤمنين في رمضان طمعا في نيل ثواب إفطار الصائم بدون انتظار جزاءً أو شكورا.

الرحمة إذن هي معنى جامع للحسن في مظاهر المحبة والود والألفة، والميل إلى اتباع اللطيف من القول والفعل في كل حادث كوني سواء كان وجوديًا أو حيويًا أو عقليًا، بل هي أم العمل، والثابت أن علة وجوب الصوم هو ترسيخ الشعور لدى المؤمنين بمقدار ألم الجوع والعطش، على المساكين وأهل الفقر والعوز، وليكون الصائم خاشعًا ذليلاً مستكينًا مأجورًا محتسبًا عارفًا صابرًا لما أصابه من الجوع والعطش، فيؤدي إليهم ما افترض الله تعالى لهم في أمــــواله.

من معاني الرحمة في هذا الشهر المبارك أنه يصير بابا أمام كل السنن الحسنة لتدخل على ضوئه في نفوس المطيعين الصائمين، يبتدئ هذا الشهر عند المؤمنين بتوزيع الصدقات، والتواصل من أجل تفقد وحصر المعوزين، والإقبال على كل ما يهيئ النفس لتكون أهلاً لرحمة الله تعالى في هذا الشهر من إقامة مجالس الذكر الجماعية بالمساجد وكثرة الدعاء، وصلة الأرحام وإطعام الطعام وإفشاء السلام وإعداد ولائم الإفطار للفقراء، والاجتهاد في ختم القرآن، وقيام الليل وإحياء ليلة القدر.

ثم يأتي عيد الفطر المبارك، وبما يعنيه من زكاة الفطرة، كحق يرفعه الناس لمستحقيه عليهم، وإصلاح ذات البين بما تقدم من طاعة هي أيضًا معاني تختم بالرحمة رحيل الشهر وبقاء رحمته تغشى النفوس.

التراحم سمة أساسية وضرورية في التعامل بين البشر، ومن عمق معنى هذه السمة تتشكل الرحمة كثقافة راسخة في وجدان أفراد المجتمع، وينبع النبل في التصرفات والسلوكيات التي بها تكتسب كافة التعاملات البعد الإنساني الحضاري، ورمضان كريم.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: لكل أسرة.. نفحات إيمانية في رمضان