صبحة بغورة تكتب: الاستقلالية العائلية.. خصوصية أم أنانية

ظلت الأسرة العربية دهورا طويلة نسيجًا اجتماعيا متماسكا، تحكمه روابط عائلية وثيقة تمنع تفككها وتحميها من التشتت؛ إذ تعيش في إطار محيط متقارب ومنسق بين أسر مجتمعة بمنزل واحد يسع العائلة الكبيرة، فيه يتشارك أفرادها بروح المسؤولية معظم أعباء الحياة.

عاشت العائلة الكبيرة في المجتمعات العربية والإسلامية حياة ملؤها الألفة والرحمة والمودة والمحبة وتسودها روح التعاون والتضامن، سواء بالمناطق الريفية أو في البيئات الصحراوية أو في المدن الكبرى.

وقد بدا وكأن العيش في عائلة كبيرة أشبه بمن يشارك المجتمع كله خصوصياته، وبعد الانفتاح الواسع لهذه المجتمعات على حضارة العالم المعاصر عن طريق الرحلات السياحية والسفر للعمل والهجرة ثم حديثا عن طريق الاتصال والتواصل المباشر أو عن طريق الانترنت والمواقع الالكترونية فرضت مظاهر الحداثة مفاهيم جديدة في الحياة أصابت القيم العربية بالذبول، ثم جمدت وتيرة الحياة المتسارعة المتخمة بالهموم المتعاقبة والمشاكل المستمرة تلك المشاعر الحميمة التي دفّأت القلوب وطمأنت الصدور وحافظت على ما كان من صلات متينة فتباعدت المسافات بين الأفراد وأحدثت النقائص في وقت الشدائد فتورا معيبا لم يكن ليحدث من قبل مهما بلغت حدة المشاكل وعمق الخلافات.

وقد أدى تطور المجتمعات والإفراط في الإنجاب إلى تزايد الطلبات وتنامي الاحتياجات والتطلع إلى تحقيق الذات المتميزة، كما أدى التفاوت بين الإمكانيات المالية إلى تزايد الرغبة في الاقتناء وحب التملك لدى الميسورين لتحقيق المتعة لأفراد أسرهم فقط وعلى قدر ما هو متوفر لديهم، لم يعد الإناء الواحد يكفي الجميع كما سبق.

وخفّت كثيرا الهبة الأخوية للمشاركة في درء الخطر أو لخوف على الآخر من العائلة الكبيرة، فضغوط الحياة وثقل همومها دفعت الجميع إلى سبيل السعي الدؤوب للبحث عن العمل والاجتهاد في زيادة الدخل ومضاعفته لتلبية الاحتياجات المتنامية لأفراد الأسرة.

ولم يترك التضخم وغلاء الأسعار فرصة أمام العائلات لإدخار ما يمكنهم من مال يواجهون به تقلبات الزمن.

لقد شتّتت هذه الظروف الضاغطة شمل الأسر جسدا وروحا، وأوجد النجاح النسبي للدعوة لتحديد النسل تقليصا في عدد أفراد الأسرة خاصة بالعواصم والمدن الكبرى وكان أن ظهرت الأسر الصغيرة بعيدا عن محيط العائلة الكبيرة وتأثيراتها سواء في تربية الأبناء أو في ضبط العلاقات الزوجية واحتواء مشاكلها في كل أمور الحياة بالسرعة الواجبة، والحال أن حرية الأزواج كانت نوعا ما مقيدة في مسألة تقرير المصير وفي نمط العيش سواء بالنسبة للبقاء في العمل أو تغييره، أو بالنسبة لنوعية دراسة الأبناء التي كان يراد لهم التخصص فيما ينفع بيئتهم القروية أو الريفية أو الصحراوية ذات التوجه المحافظ ، الأمر يدور حول جعل الجميع يدورون في فلك العائلة الكبيرة دون الخروج إلى الحياة الخارجية التي ينظر إليها بريبة وخوف.

وكان على العائلة الكبيرة الاهتمام بكل فرد على حده، ولكن لكثرة عددهم أصبح الاهتمام محصورًا على الرجال وكبرائها. ولكن كان الرأي أيضا أن السبيل الوحيد للتمكن في التحكم بالأسرة وأفرادها هو في رسم طريقة ومستوى العيش، وفي أسلوب التربية وفي القدرة على التفاهم أكثر ومعالجة المشاكل دون ضغوط كثيرة، ولكن في الواقع أن الأمر كان ينحصر بين الزوجين وأبنائهما دون أن يمتد أو يعلم بها باقي أفراد العائلة الكبيرة وهو ما تسبب في تطور المشاكل لمدى أطول بسبب أن لا أحد تدخل لحلها أو لاحتوائها؛ إذ كانت تخفي رغبة الزوجين عدم إظهار مشاكلهما حرصهما الشديد على تجنب تدخل العائلة في الشؤون الزوجية الخاصة بهما خوفا وحرجا من كشف المستور، ومن هنا بدأ البحث عن الاستقلالية العائلية في المسكن والرأي والموقف، وأصبح مفهوم الاستقلالية ثقافة وسلوكًا وفكرًا وعملًا.

قد ينطوي مفهوم الاستقلالية العائلية على علة نفس أو عقدة نقص أو سوء تقدير وعدم فهم، فالاستقلالية لا تخلو من قطع للأرحام، وتراجع التواصل العائلي، وفتور العلاقات حتى بين الأخوة، وهو ما يؤدي بهم إلى الدراية المتأخرة بأحوال كل فرد وبطبيعة الظروف التي يعيشها، وقد يفتقد الأخ أخاه وقت الشدة؛ لذلك فأي مظهر تقارب لاحق سيكون مشكوكا في براءته وفي مصداقيته وسيميل الاعتقاد أكثر إلى اعتباره نوعا من الفضول ليس أكثر.

إن التضحية بنعيم الإحساس بالأمان وبنعمة الرعاية ودفء الحنان الذي توفره العائلة الكبيرة يجد مبرره في عدم رغبة الكثيرين في نفس العائلة بالاستمرار في الشعور بالمزيد من الحرمان وضيقهم من دوام المعاناة من مشاعر الغبن بعدم حصولهم على كل ما يريدون في الحياة في صغرهم بسبب كثرة عدد أفراد العائلة التي لا تسمح بأن يتمنى أحدهم أكثر من ما يقدم إليه.

لذلك لا يريد الوالدين لأبنائهم عيش النقصان أو حياة الحرمان من مستوى معيشي جيد لا تهيئه لهم العائلة الكبيرة، الأطفال يشعرون بالغيرة من أترابهم الذين يعيشون ويسكنون في بيت مستقل ويرونهم يحصلون على كل شيء يتمنونه.

وفي عصر العلوم الرقمية والتكنولوجيا الحديثة، سيبحث كل طفل عن ألعاب ووسائل غالية الثمن وسيعمل الوالدان ما بوسعهما لتوفيرها لأبنهما، ولا يتحقق لهما ذلك إلا بالاستقلالية عن العائلة الكبيرة؛ لأن الحالة المادية لها أثر كبير في تحديد طبيعة السلوك العائلي، فإرضاء الكل صعب، وسيكون على كل فرد الرضا بما حصل عليه، أما حصر الشراء لأبناء أسرة دون بقية أبناء الأخوة والأخوات سيعتبر "ظلم" ويتأكد هنا للجميع أن استقلال كل أسرة صغيرة بالعيش ببيت منفرد كان الاختيار الأفضل، حيث يمكن لكل زوجين أن يؤسسا أسرة تسير على قوانين هما من يضعان بنودها وهما من يحدد الطريقة التي يجب التعامل فيها مع الأبناء.

ويعتبر الكثيرون أن أكبر خطأ يحدث في مجتمعاتنا العربية هو تخلي الناس عن العائلة الكبيرة وما تحمله من معاني التآزر والحكمة والتجربة في التربية، ويؤكدون أن العائلة الكبيرة تهوّن المصائب وهي منقذ الأبناء من الآفات ومجال حمايتهم، وفي إطارها تتوسع دائرة الأفراح ويسري دبيب الحياة الاجتماعية حية في القلوب.

وفي المقابل، أكد بعض الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين أن المفهوم السائد حول الاستقلالية خاطئ لأنه يتمحور حول الانفرادية والعزلة عن العائلة الكبيرة ثم الابتعاد كليا عن العائلة بمجرد حصول أحدهم على سكن خاص؛ إذ سرعان ما تثور الحساسيات بين أفراد العائلة ومنها عدم تقدير شعور الآخرين من أفراد العائلة أو التعاطف معهم، والانصراف عنهم أغلب الوقت والانشغال بحال الأسرة الصغيرة.

ويكمن الخطأ في عدم الصواب في التفريق بين أن تكون الاستقلالية فقط بمكان الإقامة وليس قطع العلاقات وعدم السؤال عن بعضهم، وأغلب الآفات الاجتماعية ناجمة عن نقص الخبرة لدى الأزواج الشباب بأصول التربية الصحيحة، في حين تعطي العائلة الكبيرة النماذج الحية في التربية والتجارب المفيدة في كل أمور الحياة.

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: المدارس المستدامة