د. عمران حسين الحداد: المرض النفسي ليس وصمة عار

ــ الإعلام كان ينقل صورة مشوهة عن الطبيب النفسي ــ نظرة المجتمع للمرض النفسي أصبحت واعية وإيجابية ــ أتمنى تعيين مرشدين نفسيين في المدارس

حوار: عبدالله القطان

نفوسنا البشرية هي عوالم عميقة وخفية داخل كل منا، لها أسرارها ومكنوناتها، وسلوكنا الظاهر ما هو إلا انعكاس لما في النفس، وهذا العالم العميق يحتاج إلى مِنهاج يقوّمه ويهذبه وينقيه ويعالج أمراضه.. ومن هنا نشأ مجال الطب النفسي.

هو طبيب أمراض نفسية وإدمان بمجمع الأمل للصحة النفسية بالدمام، رئيس الأطباء المقيمين بمجمع الأمل للصحة النفسية بالدمام 2013_2016، وعضو في الجمعية السعودية للطب النفسي.. إنه الدكتور عمران حسين الحداد، التقته "الجوهرة" وكان الحوار التالي:

لماذا اخترت دراسة الطب النفسي؟ اخترت هذا التخصص لما رأيته من جهل وعدم انتشار ثقافة الأمراض النفسية في مجتمعاتنا العربية وإرجاع أسباب هذه الأمراض النفسية إلى السحر والعين وقلة الإيمان بالله؛ إذ يؤدي ذلك التوجه إلى الطريقة الخاطئة في علاجها، وكذلك هناك وصمة العار التي تلاحق المرضى النفسيين.

كان من أهم أسبابي لاختيار هذا المجال هو تغيير الفكرة الراسخة في عقول الكثيرين وما يظنه البعض بأن من لديهم أمراض نفسية يجب وضعهم في مكان مغلق أشبه بالسجن لأنهم لا يستطيعون التأقلم مع المجتمع، ورأيت أنني أستطيع أن أخدم مجتمعي كثيرًا من دراستي لهذا التخصص، لا سيما أن نسبة الأطباء النفسيين قليلة جدًا في بلدي، وفي الحقيقة ليست بلدي فقط أو الدول العربية وحدها، بل العالم كله بحاجة لهذا التخصص؛ فتخصصي هذا جاء نتيجة شعوري بالمسؤولية.

ما الصعوبات أو التحديات التي تواجه الطبيب النفسي؟ للأسف، الصعوبات نابعة من نظرة المجتمع للمرض النفسي، فمعظم مجتمعاتنا العربية تتأخر في طلب العلاج من الطبيب النفسي وتجعله آخر خيار بعد لجوئهم إلى المشايخ أو السحرة والمشعوذين، وقد يلجأ بعض أهالي المصابين بالأمراض النفسية إلى معاملتهم بأسلوب العنف والاضطهاد والحجر المنزلي في بادئ الأمر، وهذا يصعب علينا المهمة؛ لأن المريض عندما يصل إلى العيادة النفسية يكون بلغ مراحل متقدمة من المرض، وعادة العلاج المبكر يكون أسهل بكثير بالنسبة للطبيب وللمريض من المتأخر.

ما أكثر المواقف طرافة التي واجهتك في عملك؟ من أكثر المواقف طرافة التي تتكرر معي عادة، هي أن البعض بمجرد معرفتهم بأني طبيب نفسي حتى يبادروا بإلقاء النكات حول هذا الاختصاص، وبعد قليل أفاجأ بهم يطلبون مني، خفية، رقم هاتفي للتواصل معي من أجل الاستفسار عن أزماتهم النفسية أو مشاكل أقاربهم الذين يُعانون من أمراض نفسية، وهذا يدل على أن أغلب الناس يتظاهرون بأنهم لا يعانون هم ولا معارفهم من مشاكل نفسية، رغم أنهم بأمس الحاجة إلى استشارة نفسية.

هل تسبب الإعلام في عكس صورة غير صحيحة عن المرض النفسي؟ في الماضي القريب نعم.. فكنا ما إن نسمع كلمة طبيب نفسي حتى يتبادر إلى أذهاننا تلك الصورة التي قدمتها المسلسلات والأفلام، فهو رجل "منكوش" الشعر مضطرب نفسيًا يحتاج إلى العلاج والجلسات النفسية أكثر من المريض، وغالبًا ما يتبادل ذلك المشهد في مخيلتنا بالمريض الذي يتمدد على سرير المعالجة ويحاول الطبيب إجراء جلسة علاجية معه.

فالصورة المشوهة للطبيب النفسي، كما تعرض في المسلسلات والأفلام العربية، ساهمت في انعدام الثقافة النفسية لدى عامة الناس.

ولكن في الآونة الأخيرة رأيت من الإعلام تطورًا كبيرًا في الأعمال والدراما العربية؛ حيث أصبح الطبيب النفسي يُقدم بطريقة أفضل على المستويين التقني والفني؛ ما دعا بعض كتاب السيناريو إلى استشارة أطباء بنفس المجال عندما يحتاج العمل إلى ذلك؛ حتى يكون لما يقدمونه مصداقية ودقة وأصول علمية كما يحدث في الأفلام والأعمال الدرامية الأجنبية التي يعمدون فيها إلى استشارة أخصائيين نفسيين وأحيانًا يشارك الطبيب النفسي في الكتابة.

كم تبلغ نسبة المرضى النفسيين في الوطن العربي؟ وما أكثر الفئات إصابة بالمرض النفسي؟ تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو 15% إلى 20% من مجموع سكان العالم مصابون بالأمراض النفسية، أي تقريبًا من بين 5 أو 6 أشخاص يوجد شخص مصاب ونسبة هذه الأمراض النفسية في ازدياد مستمر، وتعود أسباب ذلك إلى زيادة عدد السكان في معظم دول العالم، وعوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية والحروب والكوارث الطبيعية وغيرها، كانتشار المخدرات التي تسبب الكثير من الأمراض النفسية.

وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر المصابين بالأمراض النفسية في الخمس السنوات الأخيرة هم المُهجرون من أوطانهم نتيجة الحروب والفقر.

ويشيع الاكتئاب عادةً بين النساء أكثر من الرجال، ويصبح أكثر شيوعاً مع تقدّم العمر، وغالبًا حوالي نصف الاضطرابات النفسية تبدأ قبل سن الـ 14 سنة ولكن في معظم الحالات لا تُكتشف ولا تُعالج؛ حيث يعاني نحو 20% من الأطفال والمراهقين في العالم من اضطرابات ومشاكل نفسية.

هل اختلفت نظرة المجتمع للمرض النفسي؟ نعم، فالحرج من الذهاب للعيادات النفسية بدأ يقل مؤخرًا في مجتمعاتنا، وأعتقد أن هناك صحوة نفسية بدأت بتغيير الصورة المشوهة للمرض النفسي، وأنه لا فرق بينه وبين العضوي، وأن الإنسان يحتاج إلى متخصص وطبيب نفسي يسمعه ويحاوره حاله حال بقية التخصصات، وأصبح هناك وعي بطلب العلاج النفسي والبحث عن أسباب المرض.

ما المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعًا حول الطب والمرض النفسي؟

توجد عدة مفاهيم خاطئة؛ منها: - كما ذكرت سابقًا، الاعتقاد بأن الأمراض النفسية تنتج بسبب السحر أو الحسد أو المس الشيطاني وعلاجها يكون عن طريق الشيوخ بالرقية أو السحرة والمشعوذين، أو أن هذه الأمراض تكون بسبب قلة الإيمان بالله وضعف الوازع الديني، ولكن في الحقيقة هي مثلها مثل غيرها من الأمراض العضوية، ولا بأس بالرقية الشرعية والأذكار مع الأخذ بالأسباب وإعطاء المريض النفسي فرصته في العلاج من قِبل أطباء مختصين.

ـــ جميع المرضى النفسيين مُؤذون وعدوانيون ويجب عدم الاقتراب منهم، ولكن هذا خلاف الواقع؛ فالإحصائيات أكدت أن نسبة قيام مصابي الأمراض النفسية بأعمال عنيفة أو عدوانية تزيد بشكل طفيف عما هو الحال بين غير المصابين، علاوة على ذلك، فإن مصابي الأمراض النفسية يتم الاعتداء عليهم أكثر مما يعتدون على الآخرين.

ـــ أن جميع الأمراض النفسية مرتبطة بالحالات الذهانية الشديدة وفقدان البصيرة والإدراك؛ وهذا المفهوم خاطئ؛ فالأمراض النفسية متنوعة، والكثير منها يتحسن ويُشفى بالأدوية والجلسات، دون الحاجة لدخول المصحات النفسية.

الفصام هو اضطراب يجعل للمصاب شخصيات متعددة، كما أنه لا يمكن السيطرة عليه، وهذا غير صحيح، فالفصام يختلف عن اضطراب تعدد الشخصيات؛ إذ يتسم بأعراض مختلفة؛ منها الهلاوس والأوهام ولها علاجها الخاص.

الأمراض النفسية تنتج عن أخطاء في تعامل الأهل مع المصاب أو ضعف في الشخصية؛ أو بسبب الظروف المحاط بها، فعلى الرغم من أن هذا يعد ضمن العناصر التي تساهم في الإصابة بالأمراض النفسية، إلا أن معظم هذه الأمراض لها أساس عضوي.

الأمراض النفسية معدية، وهذا المعتقد خاطئ، فليس جميعها معدٍ.

لا ينبغي على المريض النفسي الزواج.. غير صحيح، بإمكان المريض النفسي الزواج والعيش حياة طبيعية وممارسة حياته بشكل طبيعي لو تناول العلاج اللازم وانتظم عليه.

إنّ أدوية الأمراض النفسية تُسبب الإدمان، وهذه فكرة مغلوطة وتشكل عائقاً آخر أمام ذهاب المريض للطبيب النفسي؛ حيث يعتقد بأن الطبيب النفسي شخصٌ غير موثوق فيه وهذا مفهوم خاطئ، فغالب الأدوية النفسية تعالج الخلل الكيماوي في الجهاز العصبي ولا تؤدي للإدمان.. نعم هناك القليل من الأدوية المهدئة قصيرة المفعول ونسبتها ضئيلة جدًا من بين الأدوية النفسية والإفراط في تناولها يؤدي إلى الإدمان أو التعود عليها وهذه لا تُصرف إلا في حالات وفترات معينة.

العلاج بالجلسات الكهربائية (electroconvulsive therapy) مؤلم، هذا غير صحيح؛ فهو علاج نافع جدًا لمصابي الاكتئاب الشديد وبعض الأمراض المستعصية؛ لأنه يمتلك فعالية عالية في تعديل مستويات الكيماويات الدماغية التي يؤدي اضطرابها إلى حدوث أعراض، وغالبًا ما يستخدم بعد فشل الأساليب العلاجية الأخرى أو عدم إعطائها لمفعول كاف، ويتم إجراء تلك الجلسات تحت تأثير أدوية تساعد على الاسترخاء، أي أنهم لا يشعرون بالألم أثنائه وليس بأسلوب عقاب كما يظن البعض.

ماذا تقول لمن يستبدلون العلاج النفسي بالقرآن؟ بغض النظر عن الراحة النفسية والطمأنينة التي يمنحنا إياها القرآن ولكنه لا يغني عن العلاج، بحيث نكتفي به دون الأخذ بالأسباب.

ما أكثر الأمراض النفسية شيوعًا في المملكة؟ اضطراب الهلع والرهاب، ويليه الاكتئاب ثم الوسواس القهري، فبحسب المسح الوطني للصحة النفسية عام 2018، هناك 23% مصابون بنوبات الهلع والفزع، و19% برهاب الخلاء، و12% بالاكتئاب، و11% بالرهاب الاجتماعي، و8% بالوسواس القهري.

متى أفكر في الذهاب إلى الطبيب النفسي؟ بالإمكان الذهاب بغرض الاطمئنان عند الشك بوجود أحد الأعراض المقلقة التي تعكر صفو صحتك النفسية فيصبح من الصعب عليك أن تتعامل مع ضغوط الحياة، ولا العمل بكفاءة، ولا الاندماج مع المجتمع بطريقة عادية، فزيارتك للطبيب لا تعني أنك مريض بالضرورة، هذه مسألة يقررها المعالج نفسه.

هل توجد أعراض موحدة للمرض النفسي؟ لا.. لكن هناك علامات توضح أن الشخص مصاب بمرض نفسي، وكما ذكرت سابقًا، توجد مجموعة أعراض تؤثر في المزاج أو التفكير أو السلوك وتؤدي إلى تعكير صفو الحياة النفسية إذا تجمعت مع بعض واستمرت لمدة معينة؛ بحيث تؤدي إلى عدم القدرة على التكيف مع الحياة، مثل الاندماج في العمل والمبادرة الاجتماعية والتفاعل اليومي ومواجهة تحديات الحياة.

هل يتقبل المرضى النفسيون مرضهم؟ وما نصائحك لقدرتهم على تقبل ذلك؟ يعتمد ذلك على نوعية المرض النفسي المصاب به المريض خاصة درجة الاستبصار لديه أو ما يسمى بالـ(insight)، وهو دراية المريض النفسي ومعرفته بمرضه النفسي وحاجته إلى زيارة طبيب نفسي، وهو درجات؛ أشدها انعدام الاستبصار، وهو عدم شعور المريض النفسي بأنه مريض نفسي من الأساس.

أما الاستبصار الجزئي فهو شعور المريض النفسي بأنه مريض ولكنه لا يحتاج إلى علاج، والاستبصار الكلي يعني شعور المريض النفسي بأنه مريض وبحاجة لعلاج نفسي، كما يوجد هناك الاستبصار الإدراكي وهو الاستبصار الكلي مضاف إليه إدراك المريض لأعراضه المرضية.

هل يمكن إدخال التوعية بالمرض النفسي في المناهج التعليمية؟ أتمنى ذلك، كما أتمنى تدريب مرشدين تربويين ليكونوا بمثابة المرشد النفسي في المدارس.