دكتورة رانيا يحيى تكتب: الصمم والإبداع الموسيقي بين الحقيقة والادعاء

أضاءت عقولهم نورًا فوُلد الإبداع، وامتدت أنظارهم للمستقبل فكشفت عن مكنون خباياهم بنغمات ساحرة عشقها العالم أجمع، فلم يمنعهم عجزهم عن انطلاق مواهبهم، بل كان الإصرار هو الهدف، كما كان هدم اليأس هو الشعار.

لقد أنعم الله -سبحانه وتعالى- علينا بالحواس ومنافذ الإدراك التي تساعد الشخص في عملية الإبداع، سواء متلقين أو فنانين، فنحن نتلقى الفنون بهذه المدركات أولًا قبل أن تنتقل إلى مراكز المخ كى يتعامل معها، كذلك المبدع يتعامل مع ملكاته الفنية بحواسه؛ فهو يميز الألوان بحاسة البصر، ويتعرف على الأشياء بحاسة اللمس، ويميز النغمات الموسيقية وطبيعة أصواتها اللحنية بحاسة السمع وهكذا.

وعندما يصل الإبداع إلى قمته، أتذكر قول رائد الثقافة المصرية الدكتور ثروت عكاشة حين قال على عنوان كتابه الرائع "الزمن ونسيج النغم": "العين تسمع والأذن ترى" وهو ما يؤكد تداخل الحواس والمدركات؛ لتستشعر الفن دون تفرقة بين حاسة وأخرى، وهو ما يجعلنا أيضًا نترجم العبقرية الإنسانية والفنية للموسيقى الألماني لودفيج فان بيتهوفن (1770- 1827) والذي قال عنه موتسارت: "اهتموا بهذا الصبي فسيكون حديث العالم في المستقبل"؛ حيث أعطى البشرية مثالًا يُحتذى به في الأمل والصبر وعدم اليأس، إذ إنه وهو في ريعان شبابه -تحديدًا الثلاثينيات من عمره- وحين ذاع صيته كمؤلف موهوب له أسلوب خاص، بدأ يفقد سمعه، وظل ينسحب من الأوساط الفنية تدريجيًا، ولم يتوقف إنتاجه الفني رغم ذلك، وأمضى حياته بلا زواج رغم ارتباطه بعدة علاقات عاطفية.

ومع ازدياد حالة الصمم التي أصابته، امتنع عن العزف في الحفلات العامة، وابتعد عن الحياة الاجتماعية واتجه للوحدة والعزلة، وأصبحت مؤلفاته أكثر تعقيدًا وجرأة من وجهة نظر النقاد؛ ما جعله يبرر هذا قائلًا: "إنه يعزف للأجيال القادمة" وبالفعل مازالت أعماله التي ألفها وهو أصم من أهم ما أنتجته البشرية في مجال الموسيقى الكلاسيكية العالمية حتى اليوم، علاوة على ما حققته من جماهيرية وشعبية، خاصة السيمفونية الخامسة "القدر" والتاسعة "الكورالية".

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]الإبداع الموسيقي د. رانيا يحيى[/caption]

فقد جمع بيتهوفن بين عظمة الفنان وقوة الشخصية، ويتضح ذلك من خلال أعماله التي هي خلاصة نابضة لتجربة نفسية عميقة وتعبيرًا موسيقيًا صادقًا عما كان يعتري حياته من قلق وما يجول في نفسه من ألم إزاء ما أصابه من كارثة الصمم، وبإيمان لا يتزعزع تقبل القدر؛ لذلك ابتعدت موسيقاه عن الروح الكلاسيكية بتحفظها واتزانها واقتربت من الرومانتيكية بعواطفها الجياشة وعمق الإحساس وقوة التعبير.

أما بريدريجخ سميتانا (1824-1884) فهو صاحب القلب البوهيمي النابض كما وصفه المجري فرانز ليست، ومن أهم ما كتبه في تاريخ الموسيقى العالمية قصائده السيمفونية الست المسماة "وطني" والتي أعرب فيها عن جمال بلاده ووصف سحرها بخيالاته، واستلهم منها الملاحم والأساطير والألحان التشيكية الشعبية التي عبّرت عن ريف بوهيميا، وجبل بلانيك، ومدينة تابور، ونهر فلتافا، وقلعة فيسيهارد، وقد عُزفت "وطني" في الاحتفالية الكبرى بعد استقلال تشيكوسلوفاكيا عام 1918.

وفقد "سميتانا" سمعه قبل وفاته بعشر سنوات تقريبًا، وهو بهذا يُعد النموذج الثاني بعد بيتهوفن الذي تعامل مع موهبته الفذة حتى في أحلك الظروف، فالسمع بالنسبة للموسيقي هو كل حواسه التي يرى ويتذوق من خلالها الوجود، لكنهما لم ييأسوا وأبدعوا أروع الألحان الموسيقية التي تعتبر كنزًا موسيقيًا حقيقيًا للبشرية جمعاء.

والمدهش أن هناك من يحاول أن يبني شهرته على حساب عبقرية بيتهوفن؛ فالمدعي "مامورو ساموراجوتشي" والملقب بـ "بيتهوفن العصر الرقمي" و"بيتهوفن اليابان" اعتذر منذ ما يزيد على سنتين عن كذبه الذي استمر لأكثر من ثمانية عشر عامًا؛ حيث اعتبره اليابانيون؛ نتيجة لصممه، "بيتهوفن جديد".

لكنه، صدم الشعب الياباني الذي طالما تعاطف معه، حين كشف "مامورو" الحقيقة باستعانته بمدرس موسيقي يدعى "تاكاشي نيجاكي" وأن هذا الأمر كان سرًا بينهما إلى أن أراد "مامورو" أن ينهي خداعه قائلًا: "أشعر بحرج شديد أفضل من أعيش حياة تنطوي على أكاذيب"، ومن أشهر مؤلفات ناجاكي؛ والتي حصلت على شهرة كبيرة جدًا ونُسبت لـ "ساموراجوتشي"، سيمفونية "هيروشيما" وأصبحت مقطوعة وطنية للمنطقة التي اجتاحها تسونامي، هذا بالإضافة لما قدمه من أعمال موسيقية سينمائية وألعاب فيديو لكن جميعها تدخل ضمن ادعاء الموهبة والفن على غير الحقيقة.

رانيا يحيى

بيتهوفن كان حالة فريدة في العالم بإبداعه وتراثه الموسيقي الخالد، هو الثائر العظيم ومبدع أنغام تقضي على الأحزان، وإن كان "سميتانا" أصيب بالحالة نفسها لكنه لم يصل لنفس الحد من الإبداع والبراعة فى نفس الظروف المرضية.. وهما رغم معاناتهما أصبحا أصحاب هامات عالية ونماذج نتمنى الاقتداء بها.

إذًا؛ فقدان أي حاسة من الحواس ليست النهاية بل قد تكون بداية الانطلاق للإبداع والإلهام غير المكبل بالحواس، فالعقل يمكنه تحويل قدراته لملكات إبداعية تبهر العالم أجمع، والصمم الحقيقى ليس صمم الأذن بل صمم العقل.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: دكتورة رانيا يحيى تكتب: رائدة موسيقى الأفلام في الشرق