صبحة بغورة تكتب: في رمضان.. ماذا بقي من إيجابيات العناق في زمن كورونا؟

تحت شعار "لا تصافحني، ولا تقبلني، ابتسامتك تسعدني"، تحددت منذ بداية انتشار فيروس كورونا طبيعة العلاقات الشخصية بين جميع البشر، وتبلور شكل المعاملات اليومية المباشرة بين الأفراد وعلى كل المستويات، وفق قاعدة التباعد الاجتماعي في كل مجالات الحياة.

وبكل ما تحمله من مظاهر تترك للناظر إليها من أول وهلة انطباعًا غريبًا أنها انعكاس لمشاعر سلبية كل تجاه الآخر، وأنها ترجمة لحالة جفاء ونفور، وكان من سوء الصدف أن يتزامن استمرار تفشي هذا الوباء الفتاك مع حلول شهر رمضان المعظم، ويتقاطع مع نفحاته الإيمانية، ومع مشاعر الرحمة والمحبة المتبادلة بين الصائمين.

المتفق عليه بين الأخصائيين النفسيين أن العناق دواء للتوتر النفسي، فاحتضان طفل يبكي يحفز نموه العصبي والعاطفي، ويخفف من إحباطه، ويحثه على التوقف عن البكاء، ثم على الاسترخاء؛ وذلك لإفراز المخ هرمون "أوكسيتوسين" الذي يُشعر الشخص بالأمان، ويمهد لعمل حوارات هادئة وصادقة ومناقشات صريحة مع الآخرين، فاحتضان الوالدين لطفلهما يزيد من مستوى ذكائه ونموه الطبيعي، ويساعد على إفراز مادة "الأندروفين" في الجسم؛ وهي موصل عصبي يخفف من العصبية والقلق النفسي والإحساس بالألم.

وبالعناق لمدة طويلة، يرتفع معدل "السيروتينين"؛ ما يترك إحساسًا مريحًا وجميلًا للجسم؛ لأنه يبعد احتمالات حدوث الأكسدة والإصابة بالالتهابات، ويكون ممتعا للمزاج أيضًا؛ لأنه يخلق الإحساس بالسعادة، ويخفض كثيرًا من ضغط الدم المرتفع، كما يساهم العناق في زيادة القرب بين الوالدين والأطفال وبين الأزواج، فلمس الكتف باليدين وتمرير الأصابع داخل الشعر في أوقات الأزمات يخفف من وطأتها ويعطي شعورًا بالراحة والطمأنينة.

ويساعد العناق في تطوير علاجات جديدة للأشخاص الذين يواجهون صعوبات ومشاكل في علاقاتهم الاجتماعية، خاصة المصابين بالتوحد النفسي؛ إذ يزيد من مشاعر الترابط والسلوك الاجتماعي، ويقلل من احتمالات الإصابة بمرض الزهايمر.

ومن فوائد اللمس الاجتماعي، تقليل الإجهاد والألم والقلق بين البالغين؛ حيث يقوي جهاز المناعة، ويقلل من الضغط، ويحث على النوم، ويخلق شعورًا بالبهجة، ويساعد على انتظام دقات القلب، واعتدال ضغط الدم، وانخفاض نسبة الكوليسترول، وإراحة العضلات المجهدة، وإزالة التوتر والتخفيف من حدة الآلام والأوجاع؛ لانخفاض مستوى "الكورتيزول" أو هرمون الإجهاد؛ ما يؤدي إلى زيادة تدفق الدم وتوارده في الأنسجة.

إنَّ العناق هدية رائعة بدون مناسبة، وهو مقوي ومنشط يجدد الشباب بالحيوية الدافقة، وليس له آثار جانبية ولا يكلف مالًا، ويوضح للآخرين مدى الاهتمام بهم، كما أنه قابل للتبادل.

الحقيقة، أن كل هذه الآثار الإيجابية تختفي إذا كان العناق غير مرغوب من أحد الطرفين، أو في حال كان الشخصان لا يعرفان بعضهما جيدًا، وهو قد يؤدي إلى قلق الشخص ذي الحساسية الخاصة الذي يعتبر أن خصوصيته قد انتهكت، والعامل الأهم في الموضوع هو قدر الثقة المتبادلة.

أفادت دراسات كورية أجريت على أطفال يتامى تعرضوا لفترات من المداعبة والاحتضان واللعب لمدة 15 دقيقة أن أطوالهم قد زادت بشكل ملحوظ خلال 4 أسابيع فقط مقارنة مع من لم يخضعوا لنفس التجربة.

يبدو أنه بفضل العناق -هذا الدواء السحري- سيمكننا أن نتخلص من أدوية الضغط والكوليسترول والاكتئاب، ومن المؤسف ملاحظة عدم إقبال الشباب اليوم على معانقة أمهاتهم والارتماء في أحضانهن خوفًا من تعرضهم لعبارات الاستهزاء والسخرية.

الكثيرون أهملوا العناق في المعاملات اليومية، الأم تزجر ابنها إذا ما ارتكب خطأ وتلجأ إلى عقابه، والزوجة تقاطع زوجها بعد شجار، في حين يعتبر العناق أفضل وسيلة لتهدئة الأعصاب وجبر الخواطر؛ لأن الحالة العاطفية تلعب دورًا أكبر من غيرها في معالجة الكثير من الحالات النفسية المتشنجة والمنفلتة التي يمكن أن يضعف حيالها المنطق والموضوعية، كما قد لا يصلح معها مخاطبة الفكر وحديث العقل.

اليوم، ونحن في شهر رمضان المبارك، في ظروف استثنائية، لم يعد الحال كما كنا نأمل، ولم تسر الأمور كما كنا نريد؛ لأن الأوضاع الصحية لم تعد كما كانت، فجأة وضع فيروس لايُرى بالعين المجردة الشعوب والحكومات في العالم كله على كف الموت، وعانى الملايين من البشر من ويلات الإصابة به لمجرد إهمالهم أهم قواعد التعامل معه: الحجر الصحي، الاعتزال، التباعد، تطهير كل شيء، عدم المصافحة والأولى عدم العناق.

لقد فقدنا معلمنا في كيفية حل مشاكلنا مع أطفالنا وأزواجنا بأبسط الطرق، حُرمنا من العناق لحل مشاكلنا العائلية، حُرمنا من نعمة التواصل ودفء صلة الرحم وإحياء ليالي رمضان وسط بهجة الأجواء العائلية بدون تباعد، والاحتفال مع الأطفال بأول يوم صيام أحدهم، لقد عكر فيروس كورونا روحانية أيام الشهر الفضيل، ولكن مع ذلك لا يسعني كلما التقيت أحبائي سوى أن أفتح ذراعي وأقول: رمضان كريم.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: هل فـي رمضان.. المرأة ضحية جوع الرجل