التجول بين لوحات الفنانين الخاصة بـ الفن التشكيلي، يعد بمثابة رحلة مجانية إلى الأعماق في عالم التجربة الإبداعية الزاخرة بالإيحاءات الداخلية، التي تصنع عوالم الفنان بخصوصية وذاتية شديدة.
وفيما يلي، نستكمل الحلقة الثانية من المقال، في رحلة إلى عوالم بعض رواد العرب في الفن التشكيلي..
الفنان الجزائري محمد أسياخم (1985- 1928)
من رواد الحركة التجريدية في العصر الحديث، رسام تشكيلي ومصمم جرافيك.
درس الرسم صغيرًا، وتتلمذ على يد الفنان محمد راسم، ثم أتيح له أن يعرض لوحاته في باريس عام 1951 بقاعة أندريه موريس، لينضم بعدها إلى طلبة المدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس.
وفي عام 1963، أصبح أستاذًا بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالجزائر وعضوًا مؤسسًا للاتحاد الوطني للفنون التشكيلية، وتجول بمعارضه الكثير من المدنر والعواصم.
حاز على الكثير من الجوائز والميداليات التقديرية، من أهمها جائزة “الأسد الذهبي” في روما 1980، وجائزة “الماريشال بتان” في فرنسا، و”جائزة المعرض الدولي” في الجزائر.
عمل أسياخم أيضًا بالكتابة والصحافة، وله إسهاماته الكثيرة في ذلك، كما ألف كتابه “35 سنة في جهنم رسام” عرض خلاله ملامح من تجربته الفنية والإنسانية، إلى أن توفي في ديسمبر 1985 بعد صراع مع مرض السرطان.
وتؤكد النظرة التأملية الفاحصة للوحات محمد أسياخم، أنها تحيل ناظرها إلى تجربته المريرة مع القهر والدمار، ولاشك أن لوحته “ماسح الأحذية ” كانت تجسيدًا مباشرًا لطموح الجزائر المقهورة في الانعتاق من المستعمر، وممارسة حقها في الحياة والفرح.
ارتسمت مسيرة أسياخم الفنية بريشة الأمل وألوان الألم، بعد أن داهمه مرض السرطان ومات متأثرًا به.
الفنان التجريدي عارف الريس (2005- 1928)
استمد الفنان اللبناني عارف الريس من ثقته المطلقة بالفن، شعوره العميق بالأمل في مستقبل أيامه، فامتزج في فنه الماضي بالحاضر، ولم تقع حداثته على المعنى المباشر المعاصر.
ينبع تقديره للحياة من مدى تقدير ما فيها من جمال، لذلك صاغ أسلوبه من تقديره للأشياء، فكان إنتاجه الفني غزيرًا وأساليبه في الرسم والنحت متنوعة، وكأنما كان في كل مرحلة من مراحل مسيرته الفنية فنانًا جديدًا.
جعلته كثرة أسفاره، يقيم خارج الأمكنة بشخصيات مختلفة تتداخل حالاتها العقلية ونزعاته العاطفية، فكان إفريقيا في باريس وفرنسيا في بيروت، ولبنانيا في المكسيك.
تنقل بين السنغال والجزائر وجدة، وأبدع عوالم تشكيلية متعددة، وكان النموذج الحي لامتزاج شفافية إشراقة شمس الشرق المتوسطي بمجاهل تعاويذ إفريقيا.
لم يكف عن القيام بنزهاته بين متاهات الجمال في القارات حالما، يلتقط لحياته الفنية المفردات لكتابيه: “الأيام الرمادية، ورحلة داخل الذات”.
كما التقط من أعماق العالم السحيقة ما انفعلت معه نفسه من مشاهد ارتبطت شدة وطأتها عليه بقدر وعي التدبر لديه، فعكست أعماله في جانب منها الكثير من الصراعات السياسية والعسكرية، كالثورة التحريرية المسلحة في الجزائر، والحرب الأهلية في لبنان فمثل بذلك نموذجا يجمع بين الباحث التاريخي والفنان المبدع الباحث عن الحرية فكان له ما رغب فيه ، أن يكون كل ما عايشه من أحداث، وكل ما رآه من وقائع.
كانت تجاربه الفنية المتنوعة في أساليبها والثرية بمواضيعها وخاماتها وتقنياتها مرآة لحياته، يغني من خلالها الزمن لحن الخلود التي نسجتها أنامله وعزفتها ريشته، وغنتها رسوماته.
للفنان عارف الريس، مجموعة كبيرة من اللوحات تجسد انطباعات مضطربة تجاه الصراعات التي أدخلته في خضم دوامة القلق والتوجس، فلجأ إلى النحت في منتصف الثمانينات، ليفرغ مخزون طاقته في تطوير أسلوبه في منحوتاته العملاقة.
الفنان التشكيلي السوري إلياس الزيات
يوصف الفنان التشكيلي إلياس الزيات، بقديس الرسم السوري، ومعلم الرسم والرسام الرائد، لا يؤم محرابه الفني إلا بليغوا العاطفة.
لم تكشف أعماله عن صلته بالعالم الواقعي كما نراه ونعيشه، شق طريقه إلى الحداثة الفنية فتبلورت نهجًا جديدًا يجمع في حقيقته بين التاريخ المحلي وبين ما أوجده فنانو أوروبا من تقنيات حديثة، وهو أحد مؤسسي كلية الفنون الجميلة.
وضع الفنان إلياس الزيات علمه وخلاصة دراسته في الفن وتجربته في صوفيا والقاهرة وبودابست، بين يدي طلابه، كان شغوفا برسم كل شيء في الطبيعة الحية والطبيعة الصامتة.
استعمل الفنان إلياس الزيات الألوان، لتفريغ الهم الاجتماعي، فأتقن البراعة في رسم لوحات خالدة ناطقة عن سحر البيئة ومدى أصالتها، والتراث البيئي المميز للمجتمع، تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان يترجمها كل ناظر إليها على طريقته.
وكانت المدينة حاضرة بقوة؛ حيث نذر فنه لها، في رسوم تبدو الحياة ندية وعلى طبيعتها، وتجسد لوحاته الفنية وقع حركة الحياة اليومية ببساطة وعفوية، وتصوير مناطق ريفية ؛حيث الحرية والصفا والأصالة والتشبع بالجمال والهدوء الذي ينعكس على الوجدان.
تفاؤله يسبقه إلى المشاهد التي يريد أن يرسمها ولم يمل عليها أفكاره، بل يتبع خياله الناعم؛ فتخرج مشاهده من عالمها بعد أن مرت بخياله فوهبها نعومة لم تكن منها.
يحسب للفنان إلياس الزيات، أنه أوجد حزمة من الأساليب والمناهج التعليمية من أجل ترسيخ التطبيق الواقعي لمبدأ توسيع دائرة التفكير في الفن والانفتاح على كل المدارس الفنية الحديثة.
وهو صارم في تأكيد حرية الرسام في إيجاد المعنى الحقيقي للخلق الفني والتمرد الخلاّق، لديه حس مأساوي، ويتقن فن بلاغة لنعيم المفقود، فجعل في الكثير من لوحاته مساحة عاطفية تمتزج بلوعة الفقد.
الرسام التشكيلي التونسي حاتم المكي (2003 – 1918)
ولد في العاصمة الإندونيسية جاكرتا من أب تونسي وأم إندونيسية من أصل صيني، استلهم قدرته على العيش من قوة أحلامه، ولم تقف واقعيته المفرطة حائلا بين وبين النزعة نحو التعبيرية.
تبدو بعض أعمال حاتم المكي متأثّرة بالكثير من التيارات الغربية، كالتكعيبية والوحشية وبعض تيارات الفنّ الساذج أو الفطري، وكذلك السريالية وبعض تيارات الواقعية وحتى الواقعية المفرطة.
غير أنّه عامل كلّ تلك المرجعيات بتفكير ودراية ولم يستلهم منها إلا العناصر التي تلتقي ولا تتناقض مع اختياراته الجمالية النابعة من محيطه المباشر ومع همومه المرتبطة بلحظة تفكيره التي تكون بذلك متغيّرة وفي حركة مستمرّ، لأنه ارتبط بقوة التزامه بقضايا الناس برغم أنه كان بعيدًا عن غواية الانتماء إلى “المدرسة تونس” وهي الجماعة الفنية التي أسسها رسامون فرنسيون، وانضوى تحت لوائها عدد من رواد الرسم الحديث في تونس.
رأى حاتم المكي، بلده وأهلها بعينيه لا بعيون المستشرقين، فلم تتوغل الرموز الفلكلورية إلى لوحاته، ولم تجذبه الأفكار المتعلقة بحصر مفهوم الجمال في ذاته لأنه أعلى من شأن الوصف الخارجي على حساب الاهتمام بالإنسان.
كما أنه تمسك بالتزامه الإنساني ولم يخضع لتوجه حزبي أو لفكر محدد، بل آثر العزلة ليرسم ألوانه الخاصة.
ينتمي حاتم المكي إلى الجيل المؤسس، وبفضل انفتاحه على ثقافات شرقية وغربية أصبح مؤهلا لفهم ما يجري من حوله من تحولات في مفهوم الفن وفي تقنياته وأساليبه على حد سواء.
وهو ما ظهر في رسومه التي نأى بها بعيدًا عن الوصف الذي يجعل من الرسام مشاهدًا سلبيًا لا يهتم بشيء بقدر اهتمامه بنقل ما يراه من مناظر تقع عليها عيناه.
لم تكتف رسومات المكي بمحاكاة الواقع، بل تسعى إلى إظهار تناقضاته، فمثلت لوحاته مسرحا للنقد بعدما جعلها مختبرًا نقديًا حقيقيًا لأحداث مأخوذة من الواقع فأصبحت بذلك مرآة للمجتمع.
تعتبر تجربة حاتم المك الفنية منطقة فاصلة بين مجالين مثلا الفضاء الحيوي الذي نشأ فيه فن الرسم في تونس، الأول مجال مدرسة تونس، والثاني المجال الحاضن لدعاة الحداثة والتحول من الإطار المحلي إلى التحولات الفنية العالمية والتماهي معها؛ حيث تجعل الصور كل متلقي لها يغوص في عمق التجربة ويعيش المعاناة.
صبحة بغورة
متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية
اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: رواد العرب في الفن التشكيلي (2 ـ1)