صبحة بغورة تكتب: المتابعة النفسية لأطفالنا ضرورة أم تـرف؟

عندما نرى أطفالنا وهم ينمون ويكبرون أمام أعيننا، يتملكنا إحساس رائع بسعادة لا يمكن وصفها ونشعر بالغبطة عندما نراهم يركضون ويلعبون والابتسامة البريئة تملأ وجوههم.

وفي هذه الأثناء، نذهب بخيالنا بعيدًا ونعيش معهم وهم شباب يافعين يتمتعون بكل الصحة والنشاط، لكن في ذات الوقت يتملكنا شعور آخر بالخوف من ذلك المستقبل المجهول الذي سيعترض طريق حياتهم، خاصة وأن معظم مشاكل هذا الجيل هو انعدام الثقة بالنفس الذي يظهر جليا من خلال طريقة كلامهم وسوء تقديرهم وتقليدهم الأعمى للغير، ناهيك عن وقوعهم في المشاكل اليومية الكثيرة لقلة تجربتهم وخبراتهم.

تهيج في نفس كل إمرأة غريزة الأمومة منذ اللحظة الأولى من الحمل، وإذا كانت أسمى المعاني الإنسانية لا تكفي لتفيها حقها من التقدير، فإنها تبقى في حاجة ماسة لمعرفة أساسيات التربية النفسية السليمة لطفلها وقواعد التعامل معه في كل مرحلة عمرية حتى تتشكل ملامح شخصيته وتكتمل، ولاشك أن كل أم تحتاج إلى دليل يأخذ بيدها خطوة خطوة على طريق التربية السليمة.

معظم الأمهات يعتقدن أن نظافة الطفل وجودة طعامه وتوفير أقصى ما يمكن من وسائل الراحة وأجواء الهدوء في غرفته الخاصة هو كل المطلوب منها، والحقيقة أن كل هذا لا يكفي لضمان النمو النفسي السليم للطفل، والشواهد تؤكد أن بعض الأطفال الذين حظوا بمثل هذه الرعاية و أكثر كانوا يعانون رغم ذلك من الإحساس بالتعب المزمن، واتضح أن ثمة من تعرض منهم لسلوك صادم مفاجئ يكون قد وقع حتى قبل أن يتم فطامه وترك في نفسه عقدة خوف من تكرار التعرض لنفس السلوك كلما جرت مقاربة في ذهنه لنفس الظروف أو لرؤية ذات الأشخاص وهو ما يسمى بالارتباط الشرطي.

الحقيقة المؤكدة أن الطفل يحتاج في البداية إلى رعاية نفسية متميزة قبل ولادته، ثم طوال العامين قبل فطامه خاصة وخلال سنوات فترة المراهقة، وكلمة السر هنا هي "حنان الوالدين " الذي يبدأ من الملامسة اللطيفة لبطن الحامل المنتفخ ثم حضن الأم الدافئ لمولودها الذي يغمره بإحساس بالحب ويمنحه الشعور بالأمان والحماية.

وتعد الرضاعة الطبيعية أسمى هذه المظاهر، والحوار الهادئ الباسم مع الطفل في مهده له أهميته الكبيرة في تكوينه النفسي وهو قد لا يفهم ما يقال له لكنه ضروري لتنشيط المخ ، فبالنظر في عيني الطفل أثناء تغيير ملابسه سيتأكد لنا أن الكلام معه ينشط حاسة السمع لديه ويفتح مراكز المخ.

يتحمل الوالدان جزء كبير من المسؤولية في حالة اضطراب الحالة النفسية لطفلهما وعدم ثقته بنفسه، لذلك يجري التأكيد دوما على ضرورة توجيهه وتعليمه من خلال المفتاح الأساسي لذلك، وهو التشجيع وترديد صفاته الجيدة التي يكاد ينفرد بها وإيجابياته المميزة، فهذا يضعه أمام التحدي وحتمية المثابرة، ويجعله يشعر بالمتعة في مواصلة اجتهاده، ويستعيد تدريجيا ثقته في إمكانياته وإيمانه بقدراته، ويكسر حاجز الضعف والتردد الذي لولا ذلك لظل يتملكه الخوف طيلة حياته.

ضعف أو انعدام الشعور بالثقة في النفس مشكلة عصرية كثيرًا ما نسمعها على لسان شباب لا يزال في مقتبل العمر، ويمكن أن نلمسها من خلال طبيعة تصرفاتهم كعدم استعدادهم لتحمل المسؤولية أو عدم رغبتهم في النهوض بالواجبات أو غياب قناعتهم بضرورة الوفاء بالتزاماتهم، وكلها تعد مقدمات تعكس تخوفهم من الفشل لعدم ثقتهم في قدراتهم الذاتية سواء الذهنية أو الجسدية أو العاطفية.

والأصل في تربية هو إكساب الطفل مقومات الشخصية القوية التي تجعل منه فردًا صالحًا سويًا، وتعتمد هذه التربية على تنمية قوة الإرادة لديه وتشجيعه على جدية التفكير ومنحه حرية الاختيار، والمتأمل في هذه الأبعاد يلمس حقيقة ما يمكن أن تحدثه من آثار تقي سلوك الطفل من عدة سلبيات، أهمها إبعاد التبعية عن نمط تفكيره وعن طبيعة تصرفاته وتجنبه الشعور بالمتعة الزائفة والاطمئنان المضلل بالاتكالية في إنجاز أعماله التي تؤدي في أسوأ مظاهرها إلى اعتماده القميء دومًا على الآخرين حتى في اتخاذ أهم القرارات التي تعنيه شخصيا.

ومن الآثار الإيجابية أيضًا، إبعاد شبح سيطرة الشعور المزمن عنه بأن الآخرين يسجلون عليه ضعفه ويرصدون سلبياته؛ إذ سيدفعه قلقه من ثقل الملاحظات وضيقه من استمرار هذه المتابعات إلى عدم التفاعل معهم وإصابته بالسلبية في المواقف الهامة، وبالتردد في الفعل، والقول وفقدانه الشجاعة الأدبية، ثم بالاكتئاب الشديد والانطوائية المرضية التي تفقده حضوره الاجتماعي واعتباره المهني.

الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال تحت إشراف أطباء مختصين ليست عيبا كما يظن بعض الأولياء المقيدين بمفاهيم اجتماعية مرتبطة بتقاليد بالية، وليست عارًا سيلاحق الأبناء طوال حياتهم أو أن يشين مستقبلهم، وهي في الصغر تعد من قبيل المتابعة المرغوبة والمطلوبة التي تقارب في ضرورتها الكشف الدوري على صحة الأسنان.

وكلما كان التنبه لما يبدو على الطفل من سلوك غير سوي كلما كانت فرص التوصل للعلاج المناسب أيسر وأسرع، وينبغي أن يسير هذا الاهتمام جنبا إلى جنب مع عدم التقصير في عمل التطعيم اللازم ضد مختلف الأمراض وفي وقته المحدد، والتطعيم في حد ذاته وسيلة وقاية ولا يعني بالضرورة وجود مرض لذلك فهو ليس دواء أو وسيلة علاج، وكذلك الأمر تماما بالنسبة للمتابعة النفسية للطفل عبر مختلف مراحل عمره، ففيها ضمان لسلامة صحة الطفل بمفهومها الشامل، الصحة العضوية والنفسية والعقلية والعصبية.

وحسنا فعلت وزارات التربية والتعليم في عدة بلدان عربية وغير عربية عندما خصصت مشرفًا اجتماعيًا في كل مدرسة ابتدائية وإعدادية وثانوية يعنى بشؤون التلاميذ والطلبة، وينسق مع الأهل الأسلوب اللازم لتصحيح مسار الطالب السلوكي والدراسي إذا ما شابه انحراف، والعمل على رفع مستواه التحصيلي.

 

اقرأ أيضًا.. صبحة بغورة تكتب: التـرابط الأسري.. عندما نستحضر ما هو مفقود