دكتورة رانيا يحيى تكتب: دراويش المولوية!

تُعتبر المولوية "الدراويش" واحدة من أهم الطرق الصوفية وأشهرها وأكثرها انتشارًا، وتميزت باعتمادها على فنون الرقص والموسيقى؛ لذا تُعد نوعًا من التأمل بالنغمات والموسيقى المعتمدة على الدفوف والمزاهر وآلة الناي أو الكولا، أسسها الأفغاني جلال الدين الرومي في مدينة قونية التركية خلال القرن الثالث عشر الميلادي، وهو الذي نظم معظم الأشعار التي تُنشد في حلقة الذكر المولوية.

واشتهرت الطريقة المولوية بالتسامح غير المحدود مع أهل الذمة وغير المسلمين، ومن أكثر ما يميزها أسلوب الرقص الدائري لمدة ساعات طويلة؛ حيث يدور الراقصون حول مركز الدائرة التي يقف فيها الشيخ، وعادة ما يصاحب أدائهم للرقص آيات وابتهالات من الذكر الحكيم، فيندمجون في مشاعر روحية سامية ترقى بنفوسهم إلى مرتبة الصفاء الروحي ويتخلصون من المشاعر النفسية السلبية ويستغرقون في وجد كامل يبعدهم عن العالم المادي ويأخذهم إلى الوجود الإلهي كما يرون.

وكانت تُقام حلقات الذكر في مساجد أُنشئت خصيصًا لهذه الطريقة، كما يشارك الدراويش في إحياء المناسبات الدينية مثل ذكرى المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج وغيرها من المناسبات الدينية، ولكل مناسبة من هذه المناسبات أناشيدها وأدعيتها الخاصة بها.

وتُعد التكية المولوية بالقاهرة أول مسرح في مصر وربما بالعالم كله يعرض فنونهم؛ إذ ترجع عروض فرقة الدراويش المولوية إلى العصر العثماني ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي، كما ترجع المباني الأثرية داخل التكية إلى بدايات القرن الرابع عشر الميلادي.

وكان الهدف الأول للتكية، إيواء وإطعام الدراويش المنقطعين للعبادة والفقراء، وهي تتألف من عدة أجنحة مرفقة بها، كالمسجد والأضرحة والمدرسة المخصصة لتعليم الأولاد القرآن والخط.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]الموسيقى الصوفية د. رانيا يحيى[/caption]

والمولوية -كما ذكرنا- هي إحدى الطرق الصوفية التي تستخدم الموسيقى والأشكال الأدائية بالجسد كشكل من أشكال التعبير، وهو شكل جديد لدى المتصوفة لأنهم يعتمدون على الكلام في التعبير، ولكن المولوية تستخدم الكلام والتعبير بالجسد أيضًا، وهم يعبرون عن فلسفة خاصة بهم ترجع لقدرتهم على تحريك الجسد، والجسد عند المتصوفة فانٍ، وبالتالي يعتمدون على الدوران لفترات طويلة في إعلاء للروح وسموها في مقابل إفناء الجسد.

وتعود فكرة الدوران لآلاف السنين؛ حيث فطر الله الكون على الدوران مثلما يحدث بين الكواكب، كما نتشبه بهذا الدوران بالطواف حول الكعبة المتوغل في قلوب المسلمين، فهي حالة تجريدية ورمزية وكأنها قصة تروي حكاية الكون. أما الملابس التي يرتديها الراقصون فترمز لعناصر مختلفة في شكلها ولونها؛ فالأبيض يرمز للكفن، والأسود للقبر، أما القلنسوة الطربوش فترمز إلى شاهدة القبر.

وأصحاب هذه المذاهب يقومون بالدعوة إلى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بترقيق القلوب لطاعة الله واقتراب المؤمن بدينه من خلال الابتهالات والإنشادات ليجدد الإنسان طاقته ويمشي على سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ وذلك باستخدام الأشعار القديمة للصوفية، مثل أشعار الحلاج وابن الفارض والسهروردي ورابعة العدوية، وأيضًا الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الديني مع التجديد في بعض الألحان لاجتذاب الجمهور.

ولأن الشعوب العربية بشكل عام فُطرت على الحس الديني بالغريزة؛ نجد أن الإنشاد الديني يستهوي جمهورًا كبيرًا داخل مصر وخارجها، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في نقص أعداد المنشدين الدينيين مقارنة بالفنون الأخرى.

وفى مصر فرقة المولوية المصرية، تُعد واحدة من أعرق الفرق في العالم؛ إذ أسسها الفنان المصري عامر التوني عام 1994، ويعتمد أداؤها على المقامات الموسيقية الشرقية، مثل الراست والبياتي، ويعمل "التوني" على استلهام الطقوس المولوية القديمة من خلال إعادة صياغة لها بما يتناسب مع وقتنا المعاصر؛ لنقل الموروث الثقافي المصري شرقًا وغربًا للتعريف به، كما تتخذ الفرقة من أشعار ابن الفارض وابن عربي والحلاج وغيرهم من شعراء الصوفية طريقًا لصنع روحانيات والوصول إلى درجة تقف عندها على عتبات نورانية لنغتسل فيها من مشكلاتنا الحياتية.

المولوية

وبجانب عروضها التي تُقدم في مصر، تأتي مشاركة فرقة المولوية المصرية في عدد من المهرجانات والاحتفالات الدولية والعالمية كنموذج مشرف لتقديم هذا الفن والارتقاء به، وتعمل هذه المشاركات في أوروبا وآسيا وأمريكا على تقديم المولوية لأعداد تتجاوز الآلاف من مختلف الأديان السماوية وغير السماوية، وبالتالي يسهم هذا الفن في نشر الإسلام، وتعريف أصحاب الديانات الأخرى بسماحة ديننا الحنيف باستخدام الابتهال والمديح والإنشاد باعتبارهم الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها المولوية.

وهنا يستوجب التوضيح بين "الابتهال" باعتباره مناجاة بالكلام وله شكل ارتجالي في الأداء مُتعارف عليه، ومحتوى الكلام هو مناجاة لله عز وجل، أما "المديح" فهو مدح في صفات رسولنا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وآل بيته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، و"الإنشاد" يكون تعبيرًا عن المحبة؛ لذا كان للمولوية دور في المزج بين هذه الأساليب بأغنية واحدة يتبعها دراويش المولوية ليكون لها تأثير روحي ووجداني، يطرح ثقافة جديدة دعامتها الحقيقية نشر ثقافة المحبة والسلام الذي يجب أن يبدأ من داخل روح كل إنسان.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: دكتورة رانيا يحي تكتب: عمر خيرت.. ساحر الألحان وموسيقار الوجدان