بالحديث عن الصحراء نسترجع ذكريات رحلاتنا لـ”كوكب الرمال” على امتداد مئات الكيلو مترات، فترتسم أمامنا أبرز ملامحها الرئيسة وكبرى معالمها التي تميزها: كثبان الرمال في امتدادها الشاسع نحو الآفاق، وواحات النخل الباسق التي تحيي النفس بظلالها وثمارها، وقوافل الجمال ذات الهوادج والخيل المسومة تجوب المكان فتبعث فينا روح الحياة، روائح القهوة العربية الأصيلة والهيل فوق الفحم تنتشر حولنا فتعطر المكان برائحتها الزكية التي تنعش الفؤاد.
كتبت- صبحة بغورة:
في هذه البيئة الساحرة تكتنف الحياة الإنسانية صعوبات ومشقات كثيرة خاصة في ظل ندرة المياه التي ما إن تتوفر حتى يجري استعمالها بحذر شديد.
هذه المياه يتم التعامل معها بعدة أحوال منها “النواعير” لرفع المياه بضعة أمتار لاستصلاح الأراضي، وأخرى تجري تحت الأرض وتتجمع فيها المياه، وتسمى “الأفلاج” وتسمى في الصحراء الكبرى بشمال إفريقيا “الفقارة” وهي طريقة تضمن توزيع المياه بالتساوي بين الحقول والمزارع.
ويعد توفير مياه الشرب والسقي بانتظام إرثًا تاريخيًا يحقق استقرار القبائل، إنها صورة للصحراء النموذجية، بدو ورعاة يعيشون في خيام تحيط بهم حيواناتهم المستأنسة.
منشأ حضارات وممالك
وفي هذه الصحراء نشأت حضارات وممالك ساهمت بجهودها من أجل العيش والبقاء في تشكيل بيئات مواتية للاستيطان والاستقرار البشري، فجسدت قوة فاعلية وتأثير الإنسان في علاقته ببيئته الصحراوية القاسية فحولها إلى أراض زراعية وحظائر للحيوانات للتكيف مع الظروف القاسية. وشكلت مصدرًا مهمًا لحياة السكان الذين تأقلموا مع طبيعة الحياة البرية، واستفادوا منها فخلقوا علاقة فريدة بينهم وبين بيئتهم.
التراث الصحراوي الرائع الذي أسسه الإنسان نستحضره في واقعنا كإرث لماض عريق من تلك المواد الصمغية والعضوية المستمدة من النباتات الصحراوية التي استخرجها كاللبان والمر الذي يستعمل كبخور ومواد تحنيط.
وصبغة النيلة الزرقاء الصالحة في صناعة الأنسجة، والإثمد وهو حجر أسود يصنع منه الكحل لزينة النساء، أما “النخيل” المحتمل أن ظهورها الأول كان في شبه الجزيرة العربية، وظلت إحدى الرموز الأساسية للبيئة الصحراوية لأنها شكلت مصدرًا رئيسًا للغذاء وصناعة أدوات الحياة اليومية، سماها العرب قديمًا شجرة الحياة، مرتفعة فاردة أجنحتها بتنسيق بديع.
والعجيب فيها تحول ألوانها، وتلاعب اتجاه الظل مع انحناءات السعف، تراها تارة خضراء نضرة، وأخرى قاتمة تتخللها ظلال حمراء غير محددة وكأنها انعكاس للون الجذع البنيس. أو إناء رطب لذيذ سوف تحمر وجنتاه مع اقتراب موعد القطف.
وقد ظهرت في يوميات الإنسان عبر كل الحضارات، فالنخيل مؤسس الحياة على الأرض، ووجوده بركة، وثمره أكثر وأفضل الثمار التي يحرص عليها العربي ويتميز أهل الصحراء منذ القدم بكرم ضيافتهم والتي تبدأ بحسن استقبال الضيوف والزوار بالسلام الحار ثم تقديم القهوة أو الحليب والتمر، ومن حسن الضيافة عند العرب تقديم التمر، وهذا ما أكسب التمر مكانته ورواجه في الأسواق العربية لأنه من أبرز وأرقى وأسمى العادات العربية.
سفينة الصحراء
ولا يمكن ذكر الصحراء دون الرمز الأقرب حضورًا في حياة الصحراويين والأكثر تأثيرًا في نشاطهم اليومي الذي يجسد قوة علاقة الإنسان في بيئته وهو الجمل “سفينة الصحراء” إنه أقدر الحيوانات الصحراوية على التكيف مع البيئة الصحراوية وعلى التكامل مع حياة الإنسان الذي استأنسه كوسيلة سفر إلى أقصى الأماكن. كما أصبح موردًا حيويًا للحليب واللحم والجلد والوبر.
ومنذ القدم ظهر وكأنه شاحنة استطاعت فتح أبواب الصحراء أمام العرب، فقد استأنسوا هذا الحيوان لتحمله الظروف الصعبة وملاءمة تركيبته الجسمانية مع طبيعة الصحراء. فهو يستطيع السير على رمال الصحراء الناعمة بسهولة بفضل أقدامه المفلطحة العريضة من اللحم الطري الذي يلين للرمال.
وللناقة لأهل الصحراء أهمية وفوائد، فهي رمزهم من تراثهم وحليبها شربهم، ومن وبر الجمل كسوتهم وخيامهم ويصنع منه أقوى وأشد العباءات التي تقي من برد الشتاء القاسي في الصحراء.
ومن لحمها معاشهم، وهو وسيلتهم للتنقل والأسفار وبه تجري تجارتهم وهو رفيقهم في الأفراح والأعراس وحامل هودج العروس معززة مكرمة.
ويكفي اعتزازًا أن مكان ناقة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عندما بركت بنى فوقه أول مسجد في الإسلام.
وللجمل دلالته الكبيرة في التراث العربي يضرب به المثل في الصبر الطويل والغيرة الشديدة على أنثاه.
وكذلك هوادج البهجة الذي حمل تاريخ الحضارة العربية وكان المساعد الأساس في استقرار الإنسان العربي ونمائه ووضع أسس حضارته وتراثه، وكان مرشده الأمين إلى مواطن الراحة وآبار المياه ومناطق الخطر في الصحارى المترامية الأطراف فرافق الإنسان في تجواله وترحاله.
يستعين أهل الصحراء بما توفره له بيئته من نبات وغذاء، مثل: بطاطس الترفاس الشهيرة بقيمتها الغذائية العالية التي تنمو مدفونة بعمق الرمال، وصيد الغزلان وطيور الحبار.
إلى جانب صناعة الحصائر والبرادع والشواري والقفاف والحبال والنعال التقليدية من نبات الحلفاء الذي يعرف انتشارًا واسعًا ورواجًا كبيرًا لدى سكان الصحراء، سواء لصنع مستلزماتهم المعيشية اليومية على مدار العام أو لاستعماله مع الحطب للطهي والتدفئة أو لتربية المواشي.
وقد عملت المرأة الصحراوية على تكييف ما تصنعه يدها من منتجات من نبات الحلفاء مع حاجياتها اليومية؛ حيث أبدعت في إنتاج أدوات الطبخ ومكان النوم في الخيمة.
وفي ابتكار منتجات أخرى بغرض الكسب، إنها كالصحراء ذلك العالم الشاسع الذي يكتنز في جباله عوالم السحر وغرائب الأسرار ما خفي منها وما ظهر.
وكل ما نسعى إليه هو محاولة فهمه وإدراكه بالمزيد من البحث والتأمل والملاحظة لإثراء وعينا بتاريخنا العربي وتراث بيئتنا الصحراوية التي كلما ابتعدنا عنها اقتربت هي منا بهمس أسرارها وحنان رمالها لتشكل علاقة متجددة في أعماقنا؛ لأنها جزء منا بما تحتويه وتقدمه لنا من خيرات.
حيث تستخرج الكثير من المعادن من بعض الصحاري الغنية بالغاز والنفط. بالإضافة إلى أن غناها بأشعة الشمس معظم أيام السنة جعلها مصدرًا مهمًا لاستغلال الطاقة الشمسية. عن طريق الألواح الشمسية كمصدر نظيف وصديق للبيئة. لتوليد الطاقة الكهربائية.
يثير تراث الصحراء المادي وغير المادي خلال تأملات الباحثين في آثارها وأسرارها الرغبة القوية في مواصلة البحث في مجال إحياء الجذور الشعبية لسكان الصحراء على امتدادها التاريخي الطويل والجغرافي الشاسع.
وما تزال جهود الاتصال والتواصل بين شعوب المناطق الصحراوية تكشف عن وجود عناصر مادية شاهدة على أن الأمم التي مرت عليها كانت وما تزال تمتلك إرثًا حضاريًا مشتركًا يشهد عليه ذلك التناغم الإيجابي بين هذه الشعوب عبر التاريخ، ويمثل في حد ذاته دعمًا معنويًا لمزيد من التقارب والتعاون بين شعوب هذه المناطق لخير الإنسان.