رواية «التانكي».. عن الغربة وضياع الوطن

كتب: محمد علواني

تبدأ رواية "التانكي" للعراقية عالية ممدوح، والتي وصلت مؤخرًا إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، بتكثيف سردي يقطع الأنفاس؛ فكل أشخاص الرواية تم تكديسها في بورتريه واحد ووحيد، مع الإشارة إليهم وإلى أسمائهم وموقعهم في هذه العائلة الكبيرة التي ستحاول الرواية جمع أشلائها.

ثم، وعبر فصول الرواية وعناوينها الفرعية والرئيسة، يتم نثر هؤلاء الأشخاص؛ ليأخذ كل واحد منهم موقعه من الحكاية/ الرواية؛ ليؤدي دوره في هذه الآلية السردية التي انتهجتها "ممدوح" في هذه الرواية.

أظن أن هذه التقنية السردية هي أفضل ما في هذه الرواية _ بالإضافة إلى بعدها الرمزي ذي الدلالة الواضحة، فهو سرد يخبرنا أنه سرد، أنه كذلك، كأنه يقول: "أنا سرد أسر نفسي؛ أسرد سردي".

فهذه الحكاية ليس لها راوٍ واحد، وإنما يتولى كل واحد من أفراد هذا البورتريه الأول دفة الكتابة إلى "كارل فالينو" حتى يقول، فالينو هذا، و"عفاف" ما لديهما أيضًا.

وعلى كل حال، فإن الحكاية هنا ليست حكاية "عفاف"؛ بطلة الرواية، وحدها وإنما هي قصة عائلة _ وربما وطن_ مُني بالغياب (غياب كلٍ من: سامي، عفاف، هلال.. إلخ) ويكتب كل واحد من هؤلاء إلى دكتور كارل فالينو؛ طبيب عفاف النفسي في باريس؛ ليعينهم في العثور على "عفاف" تلك الغائبة الأبدية، بل لعله يعينهم في التمسك بأهداب وطن ضاع وضيّع أبناءه.

"بصمة وطن على جسد":

هذه الرواية هي، من حيث الأصل، تعبير عن أزمة وطن انعكست على نفسية امرأة "عفاف" فأردتها صريعة المرض، والكآبة، والألم.

تقول ليونس؛ حبيبها الأول، عندما كانت في العراق قبل أن تقرر الرحلة إلى باريس: "تُرى، هل من الخير يا يونس، أن نكون بدون هذا البلد؟ وهل من الخير أن لا تطول هذه الأيام، لكي لا تنقلب إلى مرض؟ أم أن يكون البلد بدوننا، فينتزعنا منه حتى نجف ونتفتت، فلا يستشعر بالحاجة حتى لكي يأخذ العزاء بنا، فنبقى، هو وحده، ونحن وحدنا، ولا يجوز لم شمل المعزولين والمتروكين إلا بالانشقاقات الهستيرية والكآبة".

ولذا، فمن بين كل التفاصيل التاريخية والتأريخية ستكون "عفاف" هي الخيط السردي الذي سنحاول تعقّبه في هذه الرواية.

و"عفاف" هذه البطلة، موجوعة وجوديًا، ومجروحة وجدانيًا، فقررت الصمت لكي توجد، كي تعثر في الصمت على ذاتها، "فصمتها ربما هو الإيغال في وجودها، وأن هذا التواري يناسبها".

على طول الرواية وعرضها، يتردد سؤالان بشكل دائم: لماذا اختفت عفاف؟ ومتى ستعود؟ هذان السؤالان يتكرران ولا إجابة لهما، فهما سؤالان ضائعان كالوطن الضائع.

التفاهة كملاذ: منذ أن كانت "عفاف" في العراق وقبل أن تقرر ترك دراسة الهندسة المعمارية وتذهب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، بل وحتى قبل أن تقرر الهجرة النهائية إلى باريس وهي تردد وبشكل دائم وعند كل مناسبة: "تفاهة.. تفاهة".

"عفاف" هي ذاك الكائن البشري الذي أضناه الوجود فقرر ألا يُوجد، أن يُعدم نفسه، ولكن بطريقته الخاصة؛ فطلّقت الواقع، واكتفت بخيالاتها وهلوساتها التي تحوّلها، أحيانًا، إلى أغانٍ، وأحيانًا أخرى، إلى لوحات فنية من الطراز الرفيع.

لا تبشّر "عفاف" بشيء سوى بالتفاهة؛ فهي، على ما يبدو، يقينها الوحيد الباقي، وحقيقتها الوحيدة كذلك، فاسمع إليها وهي تقول بصوت تخنقه غُنة الأسى: "تفاهة ليست مُزحة، دكتور، هي الجانب الحقيقي من الوجود، لكن، لا أحد يتملّكه الغضب، فيرتدي الحداد على ذلك كله".

تزيد من اليأس والأسى بيتًا فتقول: "أنا في التفاهة أقابل نفسي، وأضعها أمامي على الطاولة، فأراها الأكثر دسمًا، فهي تُعني عن وجبات كثيرة، في الأصل، وُجدت التفاهة لفتح الشهية في المقام الأول على كل ما يتمناه المرء لنفسه".

لن نكون، بطبيعة الحال، بحاجة إلى دكتور "كارل فالينو"؛ معالجها النفسي، ليقول لنا أن هذه القناعة ليست إلا يأسًا وقد وصل إلى غايته القصوى، إلا ألمًا وقد بلغ الدورة.

تعاني "عفاف" الويلات جميعها، وتُمنى بالخيبات في كل حب قررت خوضه؛ فكل رجل أحبته من "يونس" إلى "كيوم فيليب" ليس أكثر من طعنة في وجدانها المترع، أصلًا، بالجراح.

ينتهي بها الحال لتجد نفسها في إحدى مصحات باريس النفسية؛ وإلا فهل من مصير آخر ينتظر أولئك الذين أضاعتهم أمانيهم مع أوطانهم؟!