د. رانيا يحيى تكتب: نايف البقمي وفضاءات من وحي المسرح

عملت ست دراسات مسرحية نقدية على الولوج إلى عالم المسرح السعودي، وهي تلك التي تضمنها الكتاب القيّم للباحث المسرحي نايف البقمي؛ الذي جاء معبرًا عن تجسيد الأفكار التي يتبناها المسرح، مساهمًا في عملية الوعي وزيادة النمو المعرفي؛ لتشكيل الهوية الثقافية داخل المجتمعات، وظهر ذلك في أسلوب الكتابة المسرحية للنصوص، وكذلك الشكل البنائي لعناصر العرض.

جاءت الدراسة الأولى حول "استلهام التراث في النص المسرحي السعودي"؛ حيث الارتباط الوثيق بالهوية، وطريقة المعالجة الدرامية له، وتناول الكاتب مسرحية "رسائل الشرق وأيامه" كنموذج للبحث، وعبّر عن أهمية التراث واستلهامه في المسرح العربي المرتكن إلى الموروث للكشف عن روح الأصالة في الأمة العربية.

ويرجع الاهتمام بالتراث إلى أن العرب وجدوا فيه ضالتهم؛ لأنه يمثل مقومات الأمة واستمرارها، والمسرح السعودي أخذ من توظيف التراث دعمًا قويًا لتأصيله.

ويعتبر الكاتب الراحل عبد الرحمن المريخي، أحد مستلهمين التراث الشعبي في نصوصه المسرحية.

ويطرح الكتاب حضور المرأة في النص المسرحي السعودي في دراسة بعنوان "الأبعاد الثقافية لحضور المرأة في مسرح فهد الحارثي"، وقد أبرز "الحارثي" حضور المرأة في العديد من مسرحياته، سواء بشكل مباشر كشخصية حاضرة، أو بشكل ضمني على لسان الشخوص الرجالية.

وبالتالي، فقد تناول المرأة بصورة منصفة ضمن شخصياته المسرحية؛ باعتبارها وطنًا يقف بأبنائه ضد المعتدي، وكدلالة لغوية في الأسماء تبيّن استبسال الوطن في وجه الظلم بأنواعه.

كذلك، أبرز الكاتب العديد من قضايا المرأة الفكرية والاجتماعية والثقافية، وتأييده لها، ولم يرتهن للحالة التي يعيشها المسرح واقصائه لها من التواجد على خشبة المسرح، في تأكيد لإيمانه بعدم استمرارية هذا الإقصاء والذي تبدل فعليًا عام 2019 بظهور المرأة على المسرح السعودي بحضورها كصوت للأبعاد الثقافية بكل ما تحمله من إرث ثقافي واجتماعي وتراثي وإنساني.

وقد منح الحارثي دعمًا لحق المرأة في الاختيار والظهور والحياة، وسعى لتذكير المجتمع بأن نصفه نساء.

وتناول في الدراسة الثالثة "المونودراما بين الفهم والتطبيق في المسرح السعودي.. نماذج مختارة" موضوعًا شائكًا يتعلق بمصطلح المونودراما في المسرح العربي، إذا كان الصوت الواحد في العرض، أم شخصًا واحدًا. وشملت الدراسة مسرحيات "هذيان، نوستالجيا، يا ورد مين يشتريك، يوشك أن ينفجر، العازفة، بياض، البيدق".

وعرض البحث سردًا تاريخيًا موجزًا عن مسرح المونودراما وأول عرض "بيجماليون" لجان جاك روسو عام 1760، والذي قُدم على خشبة المسرح بعدها بخمسة عشر عامًا على يد جوهان برانديز؛ ووصل البحث لقراءة تتضمن ضبابية المفهوم لدى المسرحيين السعوديين، والتي أثرت في طريقة التناول، سواء على مستوى النص أو الإخراج، وتحققت الفردانية على حساب البناء المسرحي.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]ليني ريفنستال د. رانيا يحيى[/caption]

أما "المسرح العربي وأزمة التأصيل" فتناولته الدراسة الرابعة حول الخلاف الدائر ما بين قسمين؛ أولهما يرى أن فن المسرح يرتبط بالطقوس الدينية والاجتماعية لأي مجتمع، والعرب كغيرهم لهم طقوسهم لدى قبائلهم؛ ما يدلل على معرفتهم بهذا الفن، والقسم الآخر يرى أن فن المسرح وافد لا علاقة للعرب به، وبداياته الأولى عن طريق "مارون النقاش" بعرض أولى مسرحياته "البخيل" عام 1848 التي عرّبها عن الكاتب الفرنسي موليير؛ وطرح "البقمي" استدلالاته بالرأيين، وبعدها وصل لخلاصة من منظوره الشخصي يرى فيها أن المسرح فن غربي، عرفه العرب في منتصف القرن التاسع عشر، وما كان قبل ذلك لا يعدو عن كونه ظواهر دينية واجتماعية تحمل سمات التمثيل، كان يمارسها العرب كما كانت تمارسها بقية الشعوب، لكن لا يمكن اعتبارها مسرحًا. وإن كان الكاتب ذكر فيما بعد أن الومضة الأولى لنشأة المسرحية خرجت من الطقوس الدينية لدى الإنسان البدائي!.

وعرجت الدراسة الخامسة على موضوع بالغ الأهمية، "الصراع في النص المسرحي السعودي.. دراسة على نماذج مختارة"؛ حيث أوضح خلاله كل ما يتعلق بالصراع، وتحديد أنواع الصراعات المسرحية في النصوص السعودية؛ عن طريق تناول عنصر الصراع كأحد أهم عناصر البناء للنص المسرحي، بجانب الفكرة والحبكة، والشخصية، والحوار، والإيقاع، وسقوط أحد تلك العناصر يُعد سقوطًا في بناء النص.

وبعد استعراض نشأة الصراع، وماهيته، وعلاقته بالعناصر الأخرى للنص المسرحي، وأنواع الصراع، وتقسيماته، يرى "البقمي" أن الصراع هو العمود الفقري الذي تقوم عليه المسرحية، وهو متداخل في جميع عناصر النص، مؤثر ومتأثر به. ويؤكد أن لا مسرحية بلا صراع أيًا كان نوعه؛ داخليًا أم خارجًا، وأيًا كان القسم الذي اختاره المؤلف لصنع الصراع: متصاعد، ساكن، واثب، مترقب، فالصراع هو صلب النص المسرحي وقوامه.

وتُختتم دراسات تلك الفضاءات بــ "المسرح والدين عبر العصور"، فللدين والمسرح حكاية على امتداد العصور، ولكل منهما تأثير في الآخر، وتعمل الدراسة على تبيان حالة التقارب والتنافر بينهما على مدار التاريخ؛ حيث كان الدين سببًا في وجود فن المسرح عند الإغريق وطغى الجانب الديني على العروض المسرحية، بينما نجد حالة من التفاوت في العصر الروماني، أما فترة القرون الأولى من الميلاد فكانت موضوعات المسرح مبتذلة أودت به للانحطاط، فتدخلت الكنيسة للتصدي له في أواخر القرن الرابع قبل أن تسقط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس.

أما في فترة العصور الوسطى، فظهر التناقض في علاقة الدين بالمسرح؛ إذ أماتته الكنيسة في القرن الخامس، ثم أعادت إحياءه في القرن العاشر، وتراجع اهتمام المسرح الأوروبي بالقضايا الدينية في عصر النهضة، واهتموا بالقضايا الدنيوية وسُمي "عصر التنوير". فالعلاقة متأرجحة تارة يكون المسرح أحد ارتكازات نشر الدين، وتارة نجده من الموبقات التي يرفضها الدين، وذلك تبعًا لمكانته عند الجمهور، ومدى قوة وضعف الدين لديهم.

إذًا، فهو كتاب يسبح في فضاءات عالم المسرح الغني بالموضوعات والقضايا، مؤكدًا أن المسرح حياة، فوجدنا حياة مليئة بالأفكار الفلسفية الفسيحة التي تعمل على إعمال العقل وزيادة معرفتنا المسرحية.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: شيرين أبو عاقلة.. شهيدة في محراب الإعلام