د. رانيا يحيى تكتب: الجريفاني وإبداع «رواء الشعر»

"في لمسة الحب الجميع يصبح من الشعراء" قالها أفلاطون؛ وهى تعكس أثر الحب والمشاعر في تأجيج الحاسة الإبداعية لدى الشاعر، والحب هنا ليس مقصودًا به حب الرجل للمرأة فقط وإنما مفهوم الحب أوسع وأرحب ليتضمن جميع المشاعر الإنسانية النبيلة.

والشعر هو اللسان المعبر عن ضمير الشاعر وعما يجوب بخاطره ليقاوم أي تحدٍ بالكلمة التي هي سلاحه يفتح بها أبواب السماء ويكسر أقفال القلوب ويرتقى بعقولنا ويناجى قلوبنا، كما أنه كلام موزون ذو جرس موسيقي يطرب الأذن بلغة إيقاعية إيحائية مصورة يتلاقى فيها خيال الشاعر المبدع مع أحاسيس المتلقي؛ ليرسم لوحة ذات ألوان زاهية مبهجة أحيانًا، وقد تكون قاتمة اللون عاكسة لدمعة حزن دفينة، وما بين هذا وذاك نجد تنوع الشعر والشعراء بمراتبهم المختلفة وكتاباتهم المتنوعة.

والآن، استلهم كتابات أحد المبدعين السعوديين، والذي وضع بصمة في نظمه للإبداع الشعري واقترابه من النفس البشرية والمذهب الإنساني الذي عانقه لفهم الحياة بروحانية القرب مع الله. إنه الشاعر إبراهيم الجريفاني الذي وُصف بـ "شاعر الإنسانية الحقة".

نشأ "الجريفاني" في الدمام حتى وصل إلى سن الخامسة عشرة، ثم انتقل إلى الرياض مع والدته وشقيقه في منتصف السبعينيات، ولعل فترة التنشئة الأولى لعبت دورها في تأثره بالموروث الأدبي والثقافي في الخليج العربي، وأظهر اكتراثه بقراءة الشعر في سن مبكرة، وكانت له إسهامات عدة في الإذاعة المدرسية والصحف الحائطية التي أنبأت عن ميوله الأدبي.

وانتهج "الجريفاني" في مسيرته الكتابية الاختلاف، باحثًا عن المفردة التي خُلقت له من دون سواه، فصنع من شعره أنموذجًا مميزًا أحيا فيه المفردات المنسية، وبدأ بتأسيس سيميائية العناوين التي توقف عندها النقاد بين مؤيد لهذا النهج وبين متحفظ، لكن اتفق الأكثرية، ممن نهجوا مدرسة النقد العصري الحديث، على خصوصيته في الحفاظ على أيقونة العناوين المحركة للفكر. كما أنه من أوائل من كتب عن المدونات في التقنية التكنولوجية الحديثة خلال الألفية الثانية، وعُرف باسم "أبو فرح" من خلال مدونته (قلب من خوص)، كما جاء في مقدمة الكتاب على لسان الأديبة الإعلامية أسماء الفاضل.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]ليني ريفنستال د. رانيا يحيى[/caption]

وقال الجريفاني في ديوانه: "النص خارج النص.. أو تجربة البحث عن أيقونة من كلمات تتحدى المطلق ويسكنها هاجس الريح، تفتح ذراعيها للممكن والمستحيل، تتشظى إربًا إربًا لتعبر عن المطلق والمحدود، وتزرع هواجس الروح المحملة بهموم القلب وغبار الطرقات".

وعن ديوان "رواء الشعر" قال البروفيسور الجزائري عبد الله حمادي، إنها تجربة إشراقية جديدة تمزج بين الروح والرغبة في بوتقة من تلازم وعراك مستمرين حتى موعد الذي يأتي ولا يأتي بالخبر اليقين، وحكاية "رواء الشعر" قصة البحث عن كينونة الشعر في المحدود والمطلق؛ لذا نجد الشاعر يبعثر لسانه في أقبية التساؤلات عن ماهية الشعر، فهو تارة في الثلج الحارق وطورًا في الحب العابر، ومرة في هجرة القلب نحو اللحظة الأنقى، إنه الظمأ الذى لا يرتجى موردًا سلسبيلًا أو زهرة من نقاء، هو البحث، والبحث الدؤوب عن سر المحبة في ناسوت الكلمات، أنسنة الإنسان.

ومن يصول ويجول في بحر إنسانية هذا الشاعر المبدع ذات الرقة والعذوبة في طرح الكلمات والمعاني يجد نفسه أمام حالة من العشق؛ خاصة العشق الإلهي والذي أسماه في الربع الأخير من الكتاب "رواء المؤمن"، وكانت سيميائية العناوين التي أشرنا إليها مسبقًا خير دليل على اعتناقه للمحبة الإلهية كما في "وحدانية العشق، شغف العقيدة، كلي خطايا، أيها الشفيع أحبك، سرمدي العشق، ترنيمة وجد، أكلم الله، قدسية الحب".. وغيرها الكثير، وتعبر هذه الكلمات الرقيقة الراقية عن محبة يهيم بها العاشق للبحث عن كينونة الفيض والمدى، عن لحظة التطهر من رذاذ الحب العابر لفجوات الروح.

قال "الجريفاني": عانقت واعتنقت الفكر المتحرك الباحث عن نورانية الحقيقة، باعثًا الطمأنينة لنفسي، وجدت ضالتي من كنز المعرفة يقين القرآن الكريم. يممتُ قبلة التدبر نحو اليقين فزادني بالله تعلقًا، غمست روحي في بحور المعرفة إلى اللامنتهى، انقادت روحي حيث الله، ففي الآيات قبسٌ من نور ولكل حرف مدلول معرفي يحيل البحث عشقًا خالصًا لله وحده.

الجريفاني

أما الذي احتل الجزء الأكبر من الديوان فهو يحتاج لنهل من عبير كلماته وإحساساته التي ملأت جوانحنا حبًا واشتياقًا، فما بين "ناموس الحب، ملامح حب منتظر، سرمد العشق، إرادة العشق، تسألنى نسوة المدينة، رواء الترائب، امرأة من نار".. وكثير غيرها، جميعهم يفيضون محبة هائمة، كما أن إنسانيته فاقت المحدود حين عبّر قائلًا: "اعتدت زيارة المقابر؛ لأقتات من الموتى بعض حياة"، وصار هائمًا عاشقًا محبًا في قوله: "ولجت محراب اليقين متطهرًا من رهب الحب.. غدوت بمن أهوى نقيًا".

ويسبح الشاعر هائمًا في ملكوت الممكن والمستحيل، وقد سقط في محبة القصيدة وأغوته بحبها فانهار عشقًا ذائبًا وإخلاصًا أبديًا لتلك المحبة الفائضة لينعم علينا بمتعة سرده وموسيقى قافيته وإيقاعه العذب ولغته الثرية.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: ليني ريفنستال والحروب الناعمة