دكتورة رانيا يحيى تكتب: نجاة والسندريلا.. سحر خاص وإبداع بلا حدود

للفن سحر خاص، ومذاق لا يعرفه إلا من رق قلبه بالحب والجمال؛ فمفردات الفنون يقطنها سحر يتنامى متسللاً لجوانحك نحو الارتقاء، ومن يمارس الفن يعانق وجدانه ويتوحد مع ذاته ليمتعنا بلحظات الإبداع التي تتفجر. والأسر الفنية تسري فيها جينات الإبداع وربما تختلف نسبيًا بين الأشقاء، ولكن الفن والإبداع الحقيقي لا يتجزأ عن شخصية صاحبه.. ولدينا نماذج عدة في الوسط الفني بين الشقيقات، منها بوسي ونورا، سحر رامي وعلا رامي، نيللي وفيروز، ومن الجيل الحديث إيمي ودنيا سمير غانم. لكني في هذا السياق، اخترت تناول شخصيتين متميزتين عربيًا، كسرتا القيود وحطمتا الضغوط، وبلغتا من النجاح أعظمه؛ حيث ذاعت شهرتهما في أنحاء وطننا العربي وجسدتا كثيرًا من الشخصيات التي لاقت من الحب أكثره ومن متعة التلقي أروعها.

عشقتهما منذ صغري لبراعتهما وصدق إحساسهما، سواء في الغناء أو التمثيل.. إنهما البارعتان الملهمتان نجاة الصغيرة وسعاد حسني "سندريلا الشاشة العربية". كان لنشأتهما في أسرة فنية أثر في تعلقهما بالفن؛ فهما ابنتا محمد حسني "الخطاط"، صاحب الاهتمامات الفنية، وشقيقتا الملحن وعازف الكمان عز الدين حسنيٍ، وظهرت موهبتهما في سن مبكرة، فنجاة منذ صغرها كانت دائمة الترديد لأغنيات السيدة أم كلثوم؛ فأبهرت والدها بجمال صوتها وشجعها على الغناء وقدمها في أول حفل غنائي وعمرها لم يتجاوز الست سنوات، ووُصفت –آنذاك- بالمعجزة، ثم قدمت حفلات بمشاركة فرقة بديعة مصابني، ونظرًا لصغر سنها وللتفرقة بينها وبين الفنانة المعروفة نجاة علي؛ لقُبت نجاة بـ"الصغيرة"، ورافقها هذا اللقب طيلة حياتها. ونجاة لها سحر خاص حين تتغنى بأرق الكلمات التي تبذل قصارى جهدها في انتقائها، فصوتها يجعلنا نحلق في آفاق بعيدة؛ لما لديها من مقدرة فذة وأحاسيس مرهفة تشعرنا بأنها عصارة الحب؛ لامتلاكها نبرة صوتية موسيقية تختلف عن مطربات جيلها والأجيال اللاحقة له؛ حيث استطاعت أن تخترق قلوب الجماهير وتستحوذ على إعجابهم وتفرض نفسها بلونها المميز وأدائها الفني الراقي، فكانت أغنياتها الخفيفة وهي في سن السادسة عشرة تلقى استحسانًا كبيرًا، منها "أسهر وأنشغل أنا، واوصفولي الحب وحقك عليّ وسامح"، ثم توالت الإبداعات خلال مشوارها بقصائدها التيٍ تعتبر خير مناجاة للمحبين، مثل "أيظن ولا تكذبي وأسألك الرحيل وماذا أقول". وحقيقة الأمر، أن ما تغنت به نجاة هو علامة وبصمة في مشوار الغناء المصري والعربي لا يمكن إغفالها، فهي مدرسة خاصة ومميزة يجب أن تُدرس في المعاهد الفنية المتخصصة، كما يجب أن يتم تناول طبقات صوتها ذي المقدرة الفائقة على أداء المقامات الصعبة غير المعتادة التناول وقدرتها على الانتقال فيما بينها بمنتهى السلاسة واليسر، وهو ما يصعب على الكثير من المطربين الذين يحاولون غناء أعمالها، فنكتشف الفارق الكبير بين هذه الأصوات وبين القيمة الحقيقية الكامنة في هذا الصوت الصادح بطبقاته التي تشبه الجواهر؛ ما جعل موسيقار الأجيال عبد الوهاب يصفها بـ"صاحبة السكون الصاخب". ولم تكن نجاة ذات موهبة غنائية عظيمة فقط، بل ممثلة مبدعة صاحبة ملامح مصرية جذابة، وشاركت في مجموعة من الأفلام في سن صغيرة، وكان أولها فيلم "هدية"، وتبعها "بنت البلد" و"أسير الظلام" و"ابنتي العزيزة" و"جفت الدموع" وغيرها، ولا يمكن أن نغفل دورها في فيلم "الشموع السوداء" بأدائها التمثيلي والغنائي الذي فتن كل عشاقها ومحبيها. تم تكريم الفنانة نجاة من قِبل الرئيس الراحل عبد الناصر؛ وأيضًا من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة؛ ومن بعده الرئيس زين العابدين بن علي؛ كما حصلت على وسام الاستقلال من الملك حسين؛ ملك المملكة الأردنية.. وأعتقد أن أكبر تكريم لها هو حب واعتزاز الجماهير العربية التي توحدت على حب هذه القيثارة الرقيقة، والتي رغم اعتزالها وغيابها عن الساحة الفنية والغنائية منذ فترة، إلا أنها ستظل قامة وقيمة فنية راسخة في مصر والوطن العربي. أما السندريلا، ملكة الاستعراضات الغنائية، فهي البنت المصرية الجميلة بجاذبيتها المعهودة وطلتها الشقية، حالة فنية مكتملة الأركان، والتي اقتحمت عالم الفن مبكرًا بمشاركتها في برنامج الأطفال "بابا شارو"، ثم التحاقها بعالم التمثيل، وتعتبر حالة فنية إبداعية متميزة لا تضاهيها فنانة أخرى؛ حيث تتمتع بقبول جماهيري ليس له نظير، بالإضافة لشخصيتها المرحة خفيفة الظل التي أضافت بعدًا جماليًا على تقبلها لدى جماهيرها العريضة.

ورغم أن السندريلا ليست مطربة كشقيقتها ولا تمتلك قدرات غنائية فذة ومساحة صوتها محدودة نسبيًا؛ لكنها أثبتت أن لديها موهبة غنائية لأداء الأغنيات الخفيفة والأغنيات الدرامية بشكل ملحوظ لا يمكن إنكاره، أو حتى إغفال دورها حينما نتناول الأغنية الفيلمية أو الدرامية المصورة، وتميزت بصوت جميل واعٍ وإحساس تعبيري فطري، وكانت لديها قدرة على المزج ما بين الموهبة الفطرية والقدرة الاحترافية؛ فخلقت إبداعًا غنائيًا يسيطر عليه ذكائها الشديد في كيفية توظيف حتى الإمكانات العادية بالنسبة لطبقات صوتها بما يتلاءم مع الحدث الدرامي والغنائي؛ ما جعل كثيرًا من أغنياتها تحيا في وجداننا، ووجدان الأجيال التي لم تعاصرها لكنها شاهدت واستمتعت بأعمالها الإبداعية بعد رحيلها؛ فأثبتت أنها تتخطى حاجز البعد المكاني والبعد الزماني لأنها فنانة شاملة بكل المقاييس. وكم استمتعنا بغناء السندريلا في أفلام "خلي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا" و"صغيرة على الحب"، وأيضًا حلقات مسلسل "هو وهي"، والتي تعددت موضوعاتها وبالتالي أيضًا موضوعات أغنياتها؛ حيث تغنت، خلال هذه الأعمال، بأكثر من طريقة أو أسلوب يدل على فنانة شاملة، فمثلاً عبرت عن الفتاة العادية البسيطة تحت سيطرة الحب والإعجاب بفتى أحلامها في "يا واد يا تقيل"، والفلاحة بأدائها المميز في "لا تجبلي الشاكلاته"، وأيضًا أغنيات الأطفال البنات وجرس الفسحة وغيرها الكثير.. وبالتالي استطاعت أن تستحوذ على عقول وقلوب مشاهديها بذكائها وفنها الذي يطل علينا من كل جزء منها في فترة زمنية امتلأت بنجوم الطرب في الوطن العربي، وأثبتت للجميع أن تميزها ليس فقط في أدائها التمثيلي أو الاستعراضي، لكن في صوتها الرنان الصادق التعبير الذي يفيض نبعًا من الأحاسيس المرحة، فوصلت إلى وجداننا مباشرة. حقًا، إنه عالم المتعة والإبداع اللا متناهي؛ ليبقى حيًا في ذاكرة التاريخ ويخلد من أخلص في عطائه.. فتحية لشقيقتين أمتعتا الملايين وسيظل اسماهما باقيين بكل ما قدمتاه من فن وإبداع.

[email protected]