تتميّز مدينة مكة المكرمة عن سائر مدن العالم بأهميتها الدينية الخاصة في نفوس المسلمين. إذ تشد إليها قوافل الحجيج والمعتمرين في مواسمها المباركة. كما استأثرت باهتمام العديد من الرحالة الذين تاقوا لاكتشاف أسرار الجزيرة العربية وكنوزها الخفية.
كتبت صبحة بغورة
وتحطى مدينة مكة بمكانة سامقة لدى قيادة المملكة العربية السعودية، لكونها أول الحرمين الشريفين. والمدينة ذات القدسية العظمى في الإسلام. حيث تحتضن الكعبة المشرفة بيت الله الحرام.
مكة أرض البيت الحرام
وبذكر الكعبة المشرفة، لا يمكن تجاوز الحديث عن كسوتها التي ترتبط بعدد من الفنون اليدوية العريقة. لا سيما التطريز، والخط العربي.
ويجمع كبار الخطاطين على أن كتابة خطوط الكسوة تعدّ شرفًا عظيمًا. طالما تنافس عليه نخبة من خبراء هذا الفن بمختلف المدارس المنتشرة في البلدان. كالعراق وسوريا ولبنان والإمارات.
ويؤكد هؤلاء الخطاطون أن الخط ليس مجرد نقش بل هو روح، وأن الروح المصرية تمتاز بخفة ظلّها. علاوة على ذلك فإنه رغم القوة الفنية التي يتمتع بها الخطاطون الأتراك والإيرانيون، بينما تميز المصريون في هذا الفن ينبع من إتقانهم للغة العربية فهمًا ونطقًا فصيحًا. مما مكنهم من الإبداع بأسلوب يفوق غيرهم.
رحلات الحج.. تجربة ثرية
كما منحت رحلات الحج على مر العصور، للحجاج والرحالة والمستشرقين تجربة ثرية، سعوا إلى توثيقها بأساليب مختلفة، سواء من خلال رسم الصورة بالكلمات أو عبر عدسات الكاميرات التي التقطت مشاهد حيّة للأماكن التراثية والشخصيات والمظاهر الاجتماعية.
فيما تمكن بعضهم من التغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، مما أتاح لهم تشكيل لوحات بانورامية دقيقة. بينما عبّر آخرون عن تجربتهم عَبْر الكتابة الأدبية والتوثيقية، حيث دوّنوا انطباعاتهم ومشاهداتهم بعبارات تنبض بالحياة، محمّلة بجمال السرد ودقة الملاحظة.
ومن أبرز أهداف الحجاج عند تدوين رحلاتهم إطلاع أبناء أوطانهم على سبل الحج إلى مكة المكرمة. فيما يعترض الطريق من مصاعب أو تسهيلات، لذا حرصوا على تسجيل تفاصيل الذهاب والإياب، خشية أن يطويها النسيان. فيما أغنوا مذكراتهم بنصائح مفيدة بشأن المسالك الآمنة. مستندين إلى تجاربهم الشخصية الممتدة على امتداد دروب الرحلة.
ويتفق كثير من الباحثين على أن المستشرقين والرحالة قدّموا للتراث العربي قراءات نقدية دقيقة، تعكس عمق معرفتهم وثراء ملاحظاتهم.
ويعرب عدد من المتخصصين عن امتنانهم لمجهودات شخصيات، مثل: “دي خوية” التي أضافت للمكتبة الجغرافية العربية. وكذلك “ميللر”، و”بروكلمان”، و”آسين بلاثيوس”، و”نيكلسون”، و”فالزر”، و”إروين روزنتال”، و”باول كراوس”، وغيرهم، ممن كانت كتاباتهم مرآة كاشفة لأوضاع مدن الجزيرة العربية خلال فترات تاريخية متباينة.
في حين بدأ تدفق المستشرقين الغربيين إلى الجزيرة العربية من أسماء بارزة، مثل: لودفيكو دي فارتيما، وجوزيف بتس، وكريستيان نيبور، ودومينغو باديا. وريتشارد بيرتون، وداوتي، وبيركهارت، وورتر، وفلبي.
ولم يكن الحضور مقتصرًا على الرجال، بل شاركت نساء مثل إيفيلين زينب كويلد. التي استطعن الدخول إلى منازل السكان المحليين، والتفاعل مع النساء، مما أتاح لهن الاطلاع على تفاصيل الحياة الاجتماعية من كثب. وأسهمن بذلك في توثيق التراث اللامادي للمنطقة.
الرحالة يزورون الأراضي المقدسة
واختبر هؤلاء الرحالة حضارات متباينة، واكتسبوا معارف متعددة، بعضها مألوف وبعضها غريب. فقد زار الرحالة الإسباني دومينغو باديا، المعروف باسم “علي بك العباسي”. الأراضي المقدسة عام 1807 متخفيًا في زي عربي. وكتب تقريرًا مفصلًا عنها.
وأرسل القيصر الروسي الرحالة هلترتشجاسبر سيتزن إلى الجزيرة العربية حتى اليمن، حيث دخل مكة ونال لقب “حاج”. فيما أوفدت الجمعية الإفريقية البريطانية الرحالة السويسري جون لويس بيركهارت، الذي تنقل بين جدة ومكة والطائف والمدينة وينبع، مدوِّنًا ملاحظاته بدقة.
وفي عام 1845 أوفدت جامعة هلسنكي الرحالة الفنلندي جورج أوغست فالين إلى نجد متخفيًا باسم “عبد الولي”. كما زار تبوك عام 1848. كذلك زار الضابط الإنجليزي ريتشارد بيرتون مكة والمدينة وجدة وينبع عام 1853. وأدى مناسك الحج. وفي عام 1862، موّل نابليون الثالث رحلة “جيفورد بلغريف” إلى الجزيرة العربية متخفيًا باسم “أبو محمد إلياس”، زار خلالها الجوف وبريدة والرياض والهفوف والبحرين وقطر والكويت.
أما لويس بيلي، فقد التقى عام 1865 الإمام فيصل بن تركي، وأعد خرائط مفصلة للمنطقة. وفي عام 1876، أمضى تشارلز داوتي سنتين في وسط الجزيرة زار خلالهما مدائن صالح وتيماء وحائل والقصيم. وبعده، كلّفت وزارة التعليم الفرنسية تشارلز هوير برحلتين إلى نجد، الأولى استغرقت أربع سنوات، والثانية كانت بدعم الجمعية الجغرافية الفرنسية. بينما في عام 1884 دخل الهولندي كريستيان سنوك إلى جدة باسم “عبد الغفار”، ثم إلى مكة عام 1885.
تاريخ عريق
وفي عام 1910 استطاع الفرنسي جيل جرفيه كورتلمون دخول الحرمين الشريفين، واستخدم الكاميرا لتوثيق صور من مكة وجدة، تُعد اليوم من أهم الوثائق التاريخية التي تؤرخ لحقبة مهمة في تاريخ المملكة.
وخلال عهد الملك عبد العزيز آل سعود، قام الرحالة البريطاني الشهير جون فيلبي بزيارة الرياض وسائر مدن المملكة، وأعلن إسلامه عام 1930، وكان من أكثر من كتب عن أوضاع الجزيرة العربية في العصر الحديث.
وفي عام 1879، زارت الليدي آن بلنت برفقة زوجها ويلفريد بلنت منطقة حائل بحثًا عن الخيول العربية الأصيلة، ودوّنت تفاصيل رحلتها في كتاب “رحلة إلى نجد مهد العشائر العربية”. وفي عام 1933 قدمت الليدي إفلن زينب كويلد إلى جدة لأداء الحج، وسجّلت ملاحظاتها في كتابها “خطوة خطوة في حج إلى مكة”. متناولة فيه مشاهداتها عن الإسلام، وسلوك المسلمين، وعاداتهم وتقاليدهم.
ومن خلال هذا التوثيق المتنوع والغني، تكللت جهود المملكة العربية السعودية بتسجيل العديد من عناصر التراث الثقافي غير المادي ضمن قائمة اليونسكو، مثل المجلس، القهوة العربية، العرضة النجدية، المزمار، الصقارة، القط العسيري، النخلة، حرفة السدو، الخط العربي، حداء الإبل، والبن الخولاني السعودي.