مظاهر التراث غير المادي في مكة المكرمة

تنفرد مكة المكرمة بمكانة استثنائية بين مدن العالم، ليس فقط لقداستها في قلوب المسلمين وكونها قبلة للعبادة تستقطب ملايين الحجاج والمعتمرين سنويًا، بل أيضًا لكونها مركزًا غنيًا بالتراث الثقافي والفنون والتقاليد الاجتماعية المتوارثة عبر الأجيال. هذه المدينة، التي كانت على الدوام ملتقى للحضارات ومصدر إلهام للرحالة والمستشرقين، تعكس بوضوح التفاعل العميق بين الإنسان والبيئة في شبه الجزيرة العربية، حيث حافظ المجتمع المكي على خصوصية فنونه وموروثاته، معبرًا عنها بوعي اجتماعي ناضج، وتجذر عاطفي وروحي في المكان.

 

مظاهر التراث غير المادي في مكة المكرمة

بينما لا يقتصر التراث غير المادي في مكة، على المظاهر الدينية، بل يشمل شبكة واسعة من العادات. والتقاليد المرتبطة بالمناسبات الاجتماعية والأسرية، مثل أهازيج الأفراح، ورقصات الرجال، وأشعار المناسبات، واحتفالات الولادة والسبوع وتسمية المواليد. هذه المظاهر الثقافية تبرز الطابع الخاص للمجتمع المكي. وتعبر عن هوية متجددة، تحافظ على جذورها مع انفتاحها على التأثيرات الوافدة بفعل الحج.
كما يلعب موسم الحج، بوجه خاص، دورًا محوريًا في تشكيل ملامح هذا التراث. فلطالما كان الحج عامل جذب للرحالة والعلماء، المسلمين وغير المسلمين، الذين استقوا من مكة ومن الطرق المؤدية إليها معارف متنوعة. ثم قاموا بنقلها وتدوينها؛ ما ساهم في تعزيز البعد الثقافي والديني للمدينة على مر العصور. وأنتج هذا التلاقي الحضاري روافد فكرية غنية ساعدت في تدوين مظاهر الحياة اليومية والثقافية والاجتماعية بمكة. ما جعلها خزانًا ثقافيًا للتراث غير المادي.

التراث المسجل ودور المجالس المكية

كما تمكنت المملكة من تسجيل 11 عنصرًا من عناصر التراث الثقافي غير المادي لدى منظمة اليونسكو. تمثل معظمها في مكة المكرمة، حيث تجسد الحياة اليومية تنوعًا كبيرًا في المهارات والممارسات. بما في ذلك الأدوات، والصناعات التقليدية، والمواقع المرتبطة بالأنشطة الثقافية.
ومن أبرز هذه المظاهر: المجالس، التي باتت فضاءً اجتماعيًا وثقافيًا بامتياز. هذه المجالس تقوم بوظائف متعددة، فهي مواضع للتشاور، والتواصل، والتعارف، وتبادل الأخبار، وأداء الواجبات الاجتماعية في الفرح والحزن. كما تحولت إلى رمز للتكافل الاجتماعي، تعبر فيه الأسرة عن كرمها وانتمائها لبيئتها الأصيلة.

رموز الضيافة المكية

كما تتمثل إحدى صور التراث غير المادي المميز في مكة في الطقوس المرتبطة بالضيافة. التي يعبر عنها من خلال الاهتمام بالمجالس وتنظيفها وتزيينها. وتقديم القهوة العربية وماء زمزم والتمر، وهي عناصر ذات دلالات ثقافية وروحية عميقة. القهوة، على سبيل المثال، ليست مجرد مشروب بل هي رمز للكرم العربي. تحضر بعناية من بن “الخولاني” الذي يُزرع في جبال جازان، وتقدم للأكبر سنًا أو صاحب المقام، وفقًا للعادات المكية المتوارثة.
أما التمر، فهو يمثل عنصرًا تراثيًا جامعًا بين المذاق والمعرفة، حيث تتنوع أنواعه وأساليب تقديمه. وتحافظ كل عائلة على طريقتها الخاصة في اختيار نوع التمر وتقديمه. ما يعكس ثراءً معرفيًا وثقافيًا في هذا الجانب من الموروث الشعبي.

 

مكانة روحية وتاريخية استثنائية

تحتفظ مكة المكرمة بمكانة روحية وتاريخية استثنائية، لا تختزل فقط في قدسيتها الدينية. بل تنعكس أيضًا في إرثها الثقافي الغني والمتجذر في وجدان أهلها. خاصة خلال موسم الحج. فمنذ مئات السنين، شكّل الحج مناسبة كبرى تتجلى فيها قيم الكرم والضيافة والفرح. حيث يتفنن أهل مكة في استقبال ضيوف الرحمن بماء زمزم البارد والحلويات التقليدية كالـ”بنية” و”اللدو”. إلى جانب أطعمة محلية النكهة مثل “طبطاب الجنة” و”الزرنباك” و”النقل”.
كما لا يقتصر التكريم على لحظة الوصول، بل يمتد إلى لحظة الوداع، حيث تقام الولائم وتُهدى الورود. وتمارس طقوس رمزية مثل “النثيرة”، وهي عادة قديمة يُلقى فيها على الحجاج الحلوى من أوعية خاصة. تعبيرًا عن الفرح والوداع المبارك.

وفي مشهد متوارث يعكس حس المسؤولية الجماعية، يحرص رجال مكة على التوجه إلى المشاعر المقدسة بدءًا من يوم التروية. فيما تبقى النساء في البيوت لحمايتها. وينظر إلى تغيب الرجل عن يوم عرفة من دون عذر مرضي نظرة سلبية. لدرجة أن الأهزوجة الشعبية تعبر عن ذلك بحدة ساخرة تقول:
“يا قيسنا يا قيس الناس حجوا.. وأنت قاعد ليش؟ لليلة نفرة قوم اذبح لك تيس..”.
هذه الأهازيج ليست مجرد تسلية، بل تعد تعبيرًا فنيًا عن الوعي الجمعي، ونوعًا من الرقابة الاجتماعية النابعة من الروح الدينية.

 

عادة الصنيع

 

كما يستعد أهل مكة لشهر ذي الحجة بعادة الصنيع. وهو تجمع نسائي جماعي لصناعة “المعمول” الذي يحمل طابعًا احتفاليًا وروحًا تعاونية. حيث يتم تقاسم المهام بين تحضير العجين، وتنقية التمور. وخبز المعمول في أفران الطين أو الغاز، قبل نقله في صناديق خشبية إلى المشاعر.
أما شغف المكيين بالفروسية، فله جذوره الضاربة في عمق التراث، حيث ارتبطوا تاريخيًا بتربية الخيول والإبل. وتجلى ذلك في فن “حداء الإبل” الذي يعد من أشكال التراث الشفهي غير المادي. يتمثل في تواصل صوتي بين الراعي وإبله، يتفاعل فيه الصوت مع سلوك الحيوان وفق نغمة الإلقاء. وقد انعكس هذا الشغف أيضًا على الصناعات التقليدية مثل الجلود والسروج ولباس الفرسان.

 

فن الخط العربي

كما يعد فن الخط العربي أحد المكونات الأساسية لهوية مكة الفنية، ويتجلى بوضوح في صناعة كسوة الكعبة المشرفة. إذ يعد التطريز والخط على الكسوة من أشرف المهام التي تسابق كبار الخطاطين في أدائها. وتوج هذا الفن باعتراف عالمي حين أُدرج الخط العربي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي في اليونسكو في ديسمبر 2021. بجهود سعودية وبمشاركة 15 دولة عربية تحت مظلة “الألكسو”.
بينما لا يمكن الحديث عن تراث مكة دون التوقف عند الأدب الشعبي، باعتباره مرآة صادقة لحياة الناس. يتناقلونه شفويًا عبر الأجيال، حافلًا بالقيم والمشاعر والانتماء.
وتغنى الشعراء بمكة على مرّ العصور، من حسان بن ثابت إلى ابن الفارض. فقصائدهم باتت جزءًا من الذاكرة الجمعية التي تحفظ هيبة المكان ورهبة الحضور في ظلال الحرم الشريف. ومن تلك الأشعار ما قاله أبو اليمن بن عساكر في وصف مكة:
يا جيرتي بين الحجون إلى الصفا
شوقي إليكم مجمل و مفصل
أهوى دياركم ولي بربوعها
وجد يؤرقني وعهد أول
ويزيدني فيها العذول صبابة
فيظل يغريني إذا ما يعدل

توثيق ثقافي نادر لمدينة مقدسة

حظيت مكة المكرمة باهتمام كبير من المستشرقين الأوروبيين، لما لها من مكانة دينية وروحية في وجدان المسلمين. كما تنوعت دوافعهم بين الديني والعلمي والاستكشافي، وجاءت رحلاتهم بدافع فهم الواقع وتوثيق الحياة اليومية في المدينة. لا لمجرد المغامرة أو الفضول.
وبفضل ما تمثله مكة من ملتقى عالمي للحجاج من مختلف الثقافات، وجد المستشرقون فيها فرصة فريدة لرصد مظاهر التنوع الثقافي. والاجتماعي ضمن مساحة محدودة.
كما وثقوا مشاهداتهم في مؤلفاتهم التي أصبحت مصادر تاريخية مهمة، قدمت صورة دقيقة عن تاريخ المدينة. وتراثها وحياتها الاقتصادية والثقافية، خاصة في فترات غابت فيها وسائل التوثيق الحديثة. ما جعلها مراجع لا غنى عنها للباحثين في التاريخ والدين والأنثروبولوجيا.

 

الرابط المختصر :