د. رانيا يحيى تكتب: ليني ريفنستال والحروب الناعمة

تلعب القوة الناعمة دور البطولة فى كثير من الحروب منذ آلاف السنين، فهي ليست مجرد مصطلح أطلقه "جوزيف ناي" في أواخر الألفية الثانية وبدايات الألفية الجديدة، وإنما نجدها في كثير من الأدبيات وتاريخ الأمم؛ حيث استخدمها الحكام البارزون في بلاد ما بين النهرين منذ الألف الثالث قبل الميلاد، مثل سرجون الأكدي وحمورابي البابلي أثناء بسط نفوذهم على دول مختلفة؛ فيظهرون التقدير لها وللثقافة العامة السائدة، بينما يعززون القوة العسكرية والاقتصادية.

الممثلة والمخرجة الألمانية ليني ريفنستال

كذلك، ما فعله الإسكندر المقدوني قبل الميلاد؛ حينما حاول فتح أقطار الأرض فسأل مستشاريه تقديم النصيحة التي تعينه على تحقيق غايته، فنصحوه بالتقرب إلى مؤلفي الأغنيات ليتخذ منهم عونًا وأداة لإحكام القبض على أفكار هذه الشعوب وتوجيه المجتمع، وأيضًا لم ينجح الدين الإسلامى بالسيف وإنما بقوة القيم وتفوق النموذج الذي يعبر عنها، وغير ذلك الكثير من الأمثلة.

ولعل الكثيرين لا يعرفون شخصية "ريفنستال"، رغم الدور السياسي المهم الذي لعبته باستخدام أداة غاية في الأهمية والخطورة، وهي الأفلام الوثائقية إبان الحكم النازي والذي تزعمه هتلر وتعاون معه رفيقه وزير التنوير والدعاية السياسية جوبلز؛ الذي عمل على تحريك الوعي الجمعي تجاه أهداف التيار النازي بقناعة وتأثير.

قامت ليني ريفنستال؛ الممثلة والمخرجة الألمانية، بدعم هتلر وتياره النازي وقدمت عددًا من الأفلام الوثائقية بدأتها بـ "انتصار الإيمان" وأعقبه "انتصار الإرادة" ثم "يوم الحرية.. قواتنا المسلحة"، وكانت هذه الأفلام لتمجيد هتلر وفكر التيار النازي والاشتراكية القومية، وعليه نتساءل: أين قوتنا الناعمة متمثلة فى الإعلام والفنون التى تدعم بلداننا؟ ليس لتحقيق مصالح ذاتية وإنما لدعم وطن عربي يستحق، وطن يعاني تأثير إعلام غربي مناهض لتوجهاته، إعلام ينقصه كثير من الحنكة للدفاع عن مقدراته وتوجهاته، إعلام ليس لديه القدرة على استقطاب عموم الأطياف والثقافات.

[caption id="attachment_167898" align="alignnone" width="997"]ليني ريفنستال والحروب الناعمة ليني ريفنستال[/caption]

أما الفنون وفي مقدمتها السينما والدراما، أعتقد أننا في حاجة إلى صناعة تقوم على الإنتاج القومي لدعم القضايا الوطنية وترسيخ الهوية الثقافية وبناء الإنسان بوعي واستنارة تعتمد على الأمن الفكري وحماية عوامل بناء الشخصية من الغزو الذي يقتحمها من خلال القوة الناعمة التي تضرب هوية هذه المجتمعات.

وفي محاولة لطمس الهوية وفرض هويات دخيلة، اقتحمت الدراما التركية والمكسيكية المدبلجة العديد من القنوات، وأصبحت ظاهرة في الفترة الأخيرة تواجه ما تقدمه الدراما العربية من شدة الواقعية اللافتة للنظر.

وأعتقد أنه السبب الرئيسي والجوهري لما نحن بصدده الآن من انصراف الجمهور عنها وانجذابهم لتلك المسلسلات بما فيها من ولع وتوهج عاطفي مفقود في مسلسلاتنا، بالإضافة للتناقض الكبير بين ما هو جميل معروض لديهم والصورة القبيحة التي تفرضها الدراما الواقعية، وهو ما يجعلنا نبحث في ماهية الواقعية، فهل من الضروري أن يكون الفن واقعيًا لدرجة أن يصبح محاكاة للواقع دون تقديم النموذج أو القدوة؟ وهل دور الفن نقل الواقع بقبحه وبذاءته إلى الفنون ويظل تحت شعار الفن؟.

وهل انتشار ورواج مثل تلك المسلسلات، تعد محاكاة للواقع، أم لأنها تعرض وتناقش صورًا نفتقدها في واقعنا الأليم؟ فمثل هذه المسلسلات تمثل غزوًا فكريًا وثقافيًا في زمن زادت فيه معدلات الطلاق وارتفعت سن الزواج بآثارها النفسية السيئة ومقارنتها بما يطلق من مشاهد إباحية على الشاشات ويؤثر سلبًا في مجتمعنا الشرقي، وهو ما يثير لدينا كثير من التساؤلات التي نود أن نلقى إجابة عنها حتى تفيق الدراما العربية من حالة الوهم بالانفراد والبطولة والريادة، وأن نعيش على أرض الواقع.

لقد كانت السينما والدراما من أخطر ما تعرضت له دولنا العربية بجانب الإعلام المضلل، وعملت على تأجيج حالة الاحتدام وفقدان الثقة بين الدولة والمواطن، وصنع حالة من زعزعة الاستقرار بين الشعوب والمؤسسات التابعة للدولة، واعتمدت المؤامرة على تسخير بعض الشخصيات لمنابرهم لصالح أهدافهم وتوجهاتهم لرسم سياسة جديدة تعمل على الغزو الفكري والخضوع لثقافة الغير وطمس الهوية؛ لذلك، علينا الآن أن ننتبه ونعلي من شأن أسلحتنا الناعمة في مواجهة كل محاولات الاستقطاب والحروب النفسية التي تُمارس على كل الدول العربية.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]ليني ريفنستال د. رانيا يحيى[/caption]

إن سلاح القوة الناعمة لا يقل خطورة عن التسليح بعتاد وإمكانات تعتمد على القوة الصلبة بأسلحة فتاكة، فالقوة الناعمة تأثيرها أخطر يمتد لأجيال ربما حتى بعد انقضاء الحرب واستخدام القوة الصلبة؛ لذا يجب بجانب التسليح والعتاد الصلب القوي والتأهب لحماية الحدود ومقدراتنا أن نبني خط دفاع شرس يحمي أمننا القومي داخليًا كأمة عربية من خلال القوة الناعمة بأشكالها المختلفة، وكذلك القدرة على مخاطبة العالم برسائل ذات تأثير فعال وهادف بالفن والإعلام في عصر المعلوماتية لبتر أي محاولة لغزو عقول شبابنا أو على الأقل نتصدى لها بفكر ممنهج مضاد، فالفكر لا يُقاوم إلا بالفكر لنحيا في أمن واستقرار.

وعليه، ندق ناقوس الخطر من تلك المسلسلات المدبلجة على باب كل من يعمل في المجال الفني والإبداعي والثقافي، ونبحث سويًا عن إيجاد سبل ووسائل جديدة لجذب المشاهد العربي، كما أنه يجب أن يتوفر نوع من التحدي لدى فنانينا لنصل بأعمالنا الإبداعية للسيطرة على المنطقة بأكملها وتُوزع أعمالنا على نطاق أوسع لتصل لهذه الدول وغيرها التي تبث سمومها متمثلة فى عادات وقيم تبتعد عنا كل البعد داخل إطار الأعمال الفنية.

أيضًا، محاولة غزو العقول بثقافتنا العربية الرصينة وبث قيمها النبيلة والابتعاد عن الواقعية المبتذلة، فليس العيب أن تحاول بعض الدول فرض سيطرتها ونشر ثقافتها وفنونها لكن العيب الحقيقي ما نحن عليه الآن من سلبية وهوان! لقد حان الوقت أن نخوض حربنا الناعمة بشجاعة واقتدار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

دكتورة رانيا يحيى رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون عضو المجلس القومي للمرأة بمصر

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: الأفلام الغنائية ودورها في إثراء وازدهار السينما