رحلة فنية طويلة وشاقة، لكنها ممتعة، وأعمال فنية غزيرة، ومنحوتات تنم عن إبداع حقيقي، وعن رهافة في الحس، وسمو في الذوق؛ تلك هي رحلة وأعمال النحات المصري الكبير، خالد زكي، الذي التقيناه، في هذا الحوار..
عدتَ إلى مصر عام 2010، فكيف كانت رحلة السفر، والتعلم، والعمل في إيطاليا وليبيا؟
سافرت إلى إيطاليا، في عام 1988؛ لأتعلم تقنيات النحت بمدينة بيتراسانتا، بناءًا على نصيحة أستاذتي الفنانة الدكتورة عايدة عبد الكريم، وزوجها الفنان زكريا الخناني- رحمهما الله- بعد أن قضيت أربعة أعوام في دراسة النحت بالأستوديو الخاص بهما، بمتحفهما بقرية الحرانية بالجيزة، أثناء دراستي لإدارة الأعمال بجامعة القاهرة في الفترة من 1982 – 1986.
وفي إيطاليا قضيت قرابة العشر سنوات، أعمل في استوديوهات النحت الشهيرة هناك، واستطعت بعد جهد كبير، تعلم كثيرًا من أسرار هذا المجال الشيق والصعب. وفي الوقت نفسه، كان لأساتذتي الإيطاليين الفضل في وصولي إلى مستوى جيد تقنيًا، كما كان تواجدي في تلك المدينة الشهيرة فرصة للاحتكاك بمعظم الفنانين، الذين كانوا يعيشون ويعملون هناك؛ ما أعطاني فرصة كبيرة لمشاهدة الحراك الذي يحدث في الحركة التشكيلية النحتية على مستوى العالم.
النحت عالم يمتزج فيه الشقاء بالمتعة
وبالطبع لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق، فالعمل في ورش نحت الرخام كان يتطلب التزامًا صارمًا، ومجهودًا بدنيًا وذهنيًا؛ كي أصل إلى مستوى الاحترافية التي كانت هدفي؛ من فهم للخامات المختلفة، وتقنيات النحت، والحفر، والتكبير، والنسخ من العمل “النحتي الجصي” وتطبيقه على الأحجار. كان عالمًا يمتزج فيه الشقاء بالمتعة.
عدت إلى مصر في أوائل عام 1998، وبجانب ممارستي للنحت، عملت في صناعة وترميم الآثار الحجرية التي أعشقها، خاصة بعد دراستي الأكاديمية للترميم بكلية الآثار جامعة القاهرة، وساهمت في ترميم سبيل محمد علي، ومسجد سام بن نوح بقاهرة المعز، ثم استكمال وترميم مقبرة برناب بمتحف متروبوليتان نيويورك، ثم سافرت إلى طرابلس بليبيا لترميم بعض المباني الأثرية الإيطالية. وفي أواخر عام 2010 تفرغت تمامًا لفن النحت.
معوقات وتحديات
ما هي المعوقات التي تواجه النحات بشكل عام؟
النحات أساسًا يصنع تشكيلة على خامات مبدئية؛ مثل: الطين، والجبس، وينتهي من حبكه، وصياغة فلسفة عمله الفني، ينتقل بعدها إلى إنتاج عمله على الخامة التي يراها تتوافق بصريًا، وفلسفيًا مع ذلك العمل الفني.
وهنا يحتاج النحات إلى دراية بكيفية استخراج عمله الفني من داخل الكتلة الحجرية، وكيفية انتقاء الحجر المناسب تكوينًا، ولونًا، وحجمًا.
وهنا، أيضًا تبدأ رحلة يغلب عليها المعرفة التقنية أكثر من الفنية، إضافة إلى وجوب التعرف على الأدوات بكافة أنواعها، والتدرب عليها بالشكل الذي يؤدي إلى إنجاز العمل، دون أضرار جسدية على الفنان نفسه، ودون أضرار بالحجر المستخدم، فلا يخرج العمل بالشكل المطلوب احترافيًا.
وهذه التقنيات- في مراحلها المختلفة- تتطلب سنوات لتُستكمَل، علمًا بأنه أمر لا ينتهي، فمع العمل المستمر تظهر تقنيات جديدة، يواصل الفنان تطويرها.
وينطوي النحت على إشكاليات أخرى، تتعلق بالأوزان الثقيلة، والأتربة، والضجيج الهائل الذي يحدث أثناء الإنتاج، بخلاف المصور، فمثلًا، هناك من يستمع إلى الموسيقى وهو ينتج، ويستطيع السفر حاملًا في حقيبته معرضًا كاملًا من اللوحات، بينما يستحيل هذا الأمر مع النحات.
أعمالي الفنية تتأرجح بين التجريد والتعبيرية
العمل الفني وتجاوز الانتماء
ما هي المدرسة التي تعتبر نفسك مُنتميًا إليها؟ وما أكثر المدارس انتشارًا في الوطن العربي؟
أعمالي الفنية توجد في منطقة تتأرجح بين التجريد والتعبيرية، فلست أهتم كثيرًا بتوصيف كينونة منتجي الفني، أو إلى أي المدارس ينتمي، فالعمل الفني يتطور، وينمو مع تطوري، ونموي العمري والتجريبي، وكذلك مع تفاعلي بالأحداث التي تمر بنا، وتعصف بنا أحيانًا. وفي بعض الأحيان، يتخذ عملي الفني منهجًا مفاهيميًا، ولكنني بشكل عام أتحرك، كما قلت بين التجريد والتعبير.
الوطن العربي ثري بكثير من الفنانين في جميع الاتجاهات التقليدية والحداثية، وفي النحت، يميل معظمهم -مثلي- إلى التجريد والتعبير، وإن كان هناك كم لا بأس به ينتج أعمالًا مفاهيمية مجسمة.
أنتجت كثيرًا من أعمالي على خامة “البرونز”
ما هي أبرز الخامات التي تستخدمها في النحت؟
أنا أفكر في معظم، أو كل صياغاتي كنحات أحجار، وإن كان كثير من أعمالي قد أنتجته على خامة البرونز، إلا أنه لا يوجد تقريبًا عملٌ من أعمالي لا يمكن أن ينتج على الأحجار، ولا أشعر بالسعادة إلا حينما أتخيل أعمالي قابلة لإنتاجها على الأحجار.
لا أرضى عن كثير من الأعمال الميدانية سوى منحوتات الرواد
معيار الحكم على الأعمال الفنية
ما رأيك في التماثيل الموجودة في الميادين العامة بالوطن العربي؟ وما علاقتها بالمظهر الحضاري؟
هذا يتوقف على مفهوم كلمة المظهر الحضاري، أو مفهوم كلمة “حضارة” نفسها، وهي كلمات يجب توضيحها؛ حتى يتم التنظير على أساس مفهوم الكلمة المتفق عليه، وفي إطار وضوح ذلك المفهوم.
بالطبع، هناك تطور في المفهوم للعمل الفني نفسه، ووظيفته في الفراغ من حقبة زمنية لأخرى، مع تطور ونمو المجتمعات عبر الزمن، ولكن مازالنا نفتقد إلى معيار قياسي واضح في مجتمعاتنا، يتم على أساسه الحكم على العمل الفني ما إذا كان حضاريًا، ومدى علاقته بالمستوى العام للتحضر، وتعليم، وثقافة المواطن، أو رجل الشارع، وكذلك مهمة تأهيل المواطن بشكل علمي يتناسب مع إمكانياته؛ لكي يقبل عملًا فنيًا ما، ويعتبره مقبولًا أو يرفضه، والأمر نفسه ينطبق على المسؤول الذي يقرر وضع عمل ما في فراغ ما؛ فالكل شركاء!.
والأعمال التي قد نراها غير جديرة بأن توضع في ميادين عامة، هي في الحقيقة توضح كمًا من التضاد في شخصيتنا، وكمًا من التناقض في وجهات نظر مجتمعنا تجاه نفسه، وربما الكلمة الحقيقية هي عدم التصالح مع أنفسنا. وكذلك، فإن عدم الوضوح هو الذي يجعلنا نصطدم من وقت لآخر بعمل ما هنا وهناك، يُثير غوغاءًا، ورفضًا، واستنكارًا.
وبشكل عام، أنا غير راضٍ عن كثير من الأعمال الميدانية التي أراها بخلاف أعمال الرواد الأوائل، أمثال الفنان الراحل محمود مختار.
إشكالات النفس البشرية
هل ترى علاقة بين الفن والسمو والروحانيات؟
أعتقد أن النحت هو أحد الوسائل الفنية التي يعبر بها الفنان عن نفسه، وينقل من خلاله للمشاهد أفكاره، وأحاسيسه، وفلسفته، ووجهة نظره.
في الممارسة الفنية يكون هناك تداخل بين الوعي واللاوعي، وبين الفيزيقا والميتافيزيقا، وهي كلها صِيغ تدور حول النفس البشرية بإشكالياتها، وتحليلات تَعرض لها علم النفس البشرية. وحينما نتطرق إلى هذا المدخل، فلن نكون بعيدين عن العذاب الذي يُؤرق النفس البشرية، والذي يبحث عن كينونة وكيفية الوصول إلى السلام مع النفس. وفي هذا الصدد، يتعرض أيضًا لإشكاليات لها علاقة بشكلٍ ما، مع سمو النفس البشرية بأشكاله المتعددة.
الفن مرآة المجتمع
ما دور الفن تجاه المجتمع؟ وما دوره حيال الأزمات التي تعانيها المجتمعات اليوم؟
الفن الصادق هو مرآة للمجتمع يعكس ما يحدث فيه، كما أنه تصور لمستقبل المجتمع، من خلال السياق الذي يسير فيه في وقته الحاضر، سواء كان تصورًا إيجابيًا، أو سلبيًا. لقد أصبح العالم قرية بسبب نظرية العولمة؛ ماترتب عليه محاكاة نظريات الفن للمجتمعات الحديثة. وعلى الجانب الآخر، أصبح كثير من تلك المجتمعات- من ناحية الإبداع الفني- متعبة ومنهكة بصريًا، وليس لديها طاقات إبداعية تدعو إلى الانبهار، كما كان الحال في القرن الماضي.
وعلى هذا، فإن لكل مجتمع إشكالياته المختلفة، وطاقاته الإبداعية، والبصرية، والوجدانية المختلفة؛ وهو ما يجب أن يظهر في شكل العمل الفني، ومضمونه.
المتاحف للجميع
كان النحت والفن شعبويًا، ثم أمسى نخبويًا، ما سر هذا التحول؟ وكيف نوصل رسالة الفن إلى العوام وليس النخبة فحسب؟
كان الفنانون في الماضي يتم تبنيهم من طبقات البلاط الملكي والطبقات البرجوازية، وكان معظم تمويل الأعمال الفنية للكبار يأتي من هذا الاتجاه عدا قليل منهم. ومع مرور الوقت- ولأسباب و ظروف مختلفة- فإن كثيرًا من المقتنيات والقصور أصبحت متاحف، كما أصبحت تلك الأعمال في النهاية شعبوية ومتاحة للجميع.
وعلى الجانب الآخر، يخرج كثير من الفنانين الجدد والواعدين من الطبقات الشعبوية، وهؤلاء يتطور منتج كثير منهم من خلال دور الدولة التي تتيح لهم الظهور في المعارض والصالونات المختلفة، بل وأحيانًا تقدم لهم تمويلًا في شكل جوائز ومنح، وهذه العملية هي في معظمها شعبوية. وبالطبع يتقدم الفنانون المميزون- من خلال هذه الأدوات- لجمهور المقتنيات، والذين معظمهم من طبقات نخبوية؛ فيلمع بعض الفنانين ويصبحوا نجومًا. وكما قلت سابقًا، معظم الأعمال عاجلًا أم آجلًا تنتهي في متاحف خاصة أو عامة، وتصبح متاحة للجميع.
فالحركة ترددية وتكاملية وليس بهذا الشكل من التناقض، كما يظن كثيرون، وكل الأطراف المشاركة في هذه العملية ذوو أهمية، ولهم دور محوري في استمرار العملية الإبداعية في التطور والازدهار.
انتهيت من عرض مشروعي الجديد “القيامة” في دبي
هل هناك أنشطة تقوم بها قريبًا، أو ندوات التي تشارك فيها ؟
لقد انتهيت من عرض مشروعي الجديد؛ “القيامة”، والذي تم عرضه في قاعة “طبري أرت سبيس” في دبي، وهو مشروع هام في مسيرتي الفنية. وحاليًا أدرس بعض المشروعات الفنية والنحتية الجديدة، ولكن أود التحدث فيها بالتفصيل إن شاء الله عند اكتمال رؤيتها.