في خضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، تبرز قصص قيادية استثنائية تعيد تعريف دور المرأة في القطاعات الحيوية. وتتصدر هذه القصص مسيرة هدى الغصن، الرائدة السعودية التي لم تكتفِ بكسر الصورة النمطية لـ “صناعة النفط والغاز” بوصفها حكرًا على الذكور، بل أصبحت مهندسة للتغيير الثقافي والإداري في أكبر شركة طاقة عالمية، أرامكو.
المسيرة المتوازنة: مزيج من الأدب والإدارة
بحسب “وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية “لم يكن نجاح الغصن وليد الصدفة، بل كان نتاجًا لتكوين أكاديمي فريد ومتوازن. بفضل حصولها على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الملك سعود عام 1980، اكتسبت فهمًا عميقًا للغة والثقافة والتواصل الإنساني. هذا الأساس الإنساني تعزز لاحقًا بحصولها على ماجستير إدارة الأعمال من الجامعة الأمريكية في واشنطن عام 1986، ما زودها بالأدوات العملية اللازمة لإدارة التغيير والتطوير المؤسسي. هذا المزيج الأكاديمي سمح لها بتبني فلسفة إدارية متكاملة تضع الكفاءات البشرية ورفاهية الموظفين في صميم الاستراتيجية المؤسسية.

صعود تاريخي نحو قمة الموارد البشرية
كان التحاق الغصن بشركة أرامكو عام 1981 خطوة جريئة في وقت كانت فيه مشاركة المرأة في هذا القطاع محدودة للغاية. إلا أنها حولت هذه البداية إلى مسار مهني تصاعدي مذهل. فبعد تدرجها في أدوار تطوير الكوادر، وصلت إلى منصب مدير عام للتدريب والتطوير في عام 2009، لتصبح أول امرأة في تاريخ الشركة تتولى هذا المنصب الاستراتيجي.
وجاء التتويج الأكبر في عام 2012، بتعيينها المدير التنفيذي للموارد البشرية. حيث أشرفت على إدارة رأس المال البشري لأكثر من 60 ألف موظف حول العالم حتى تقاعدها في ديسمبر 2017. لم يكن هذا الإنجاز نجاحًا شخصيًا فحسب، بل كان إشارة واضحة على قدرة المرأة السعودية على قيادة الملفات الأكثر حساسية في بيئة عمل تقليدية.
تغيير الثقافة المؤسسية
بالإضافة إلى ذلك لم يقتصر دور الغصن على الإدارة الروتينية، بل ركزت على إحداث تحول ثقافي جوهري داخل أرامكو. أطلقت مبادرتين رائدتين: “المرأة في الأعمال” (Women in Business) و “المرأة في القيادة” (Women in Leadership). كانت النتيجة ملموسة ومذهلة؛ حيث ساهمت هذه المبادرات في رفع عدد القياديات في الشركة من ثلاث نساء فقط إلى أكثر من 80 قائدة. هذا التحول يؤكد أن مبادراتها لم تكن مجرد استجابة شكلية لمتطلبات التنوع العالمي، بل كانت منسجمة بشكل متكامل مع مسار التمكين الوطني الذي ترسمه رؤية المملكة 2030.
إلى جانب ذلك، عملت الغصن على برنامج STEM Pipeline لتشجيع الفتيات على دخول تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. مسهمة بذلك في سد الفجوة بين الجنسين في قطاع الطاقة وتوفير الكفاءات اللازمة للمستقبل الاقتصادي للمملكة.

إرث يتجاوز أرامكو إلى المشهد العالمي
لم تتوقف مساهمات هدى الغصن عند تقاعدها. فقد واصلت تأثيرها على استراتيجيات التنمية البشرية على المستوى الوطني والدولي. من خلال عضويتها في مجالس إدارة كبرى الشركات والمؤسسات، مثل البنك الوطني السعودي وشركة STC.
لقد حصدت الغصن تقديرًا دوليًا يعكس حجم تأثيرها. حيث أدرجت ضمن قائمة Forbes الشرق الأوسط لأقوى النساء العربيات في مجال الإدارة التنفيذية. وحصلت على جوائز مرموقة مثل جائزة Women in Leadership من مجلس التجارة الأمريكي-العربي.
كما يتجاوز إرث هدى الغصن كونه قصة نجاح فردية؛ فهو يمثل نموذجًا وطنيًا عمليًا للانتقال من التنوع الشكلي إلى التمكين الحقيقي. ويوفر خريطة طريق للقيادات النسائية الشابة لبناء بيئة عمل أكثر توازنًا واستدامة في أهم قطاعات المملكة.
















