صبحة بغورة تكتب: تعدد الزوجات بين مبرراته وموجباته

أباحت الشرائع المدنية قديمًا تعدد الزوجات بغير شروط معينة أو قيود محددة وبدون تحديد عددهن أو الحد الأقصى منهن.

وقبل الإسلام أباحت الشريعة اليهودية تعدد الزوجات، حتى جعلته التوراة والتلمود مباحًا على إطلاقه وعلى حسب رغبة الرجل ووفق قدرته المادية.

ولم تحرم المسيحية التعدد أيضًا، وحسب تواريخ الزواج لدى الأوروبيين بقي مباحا في الديانة المسيحية حتى القرن السادس عشر الميلادي، ثم وضع الإسلام حدًا للتعدد فحدده وقيده، جعله 4 زوجات بحد أقصى في آنٍ واحد واشترط فيه العدل، وهو بهذا قد أصلح عادة تعدد الزوجات التي كانت موجودة قبله بقرون، إذًا لم يكن الإسلام هو أول من أقر تعدد الزوجات وهو مع ذلك لم يبطله لأنه يحل مشاكل اجتماعية كثيرة.

يدغدغ تطرف الفكر التحرري في عصرنا الحديث تأملات الأوساط النسائية في حقائق الكون؛ حيث يتساءلن في خبث: " لماذا يتزوج الرجل أربع نساء، ولا تتزوج المرأة أربع رجال؟"، ومع بداهة الجواب الذي يتعلق أساسا بضرورة الحفاظ على الأنساب فإن الرجل بقوته وسلطته يستطيع أن يسيطر على أربع نساء، بينما لا تستطيع المرأة السيطرة على أربع رجال، كما أن الرجل بطبيعته لا يحب أن يشاركه أحد في معاشرة الزوجة نفسها.

العلاقات الزوجية منها ما هو مادي، وهو الجانب الذي يمكن للزوج أن يتحكم بها وأن يضمن العدل فيها بين زوجاته كالنفقة والمسكن والكسوة والإطعام والمعاشرة، ومنها ما هو معنوي، كالمحبة والميل العاطفي، وغيرها من المشاعر التي غالبًا ما لا يستطيع الزوج التحكم فيها.

الرجل لابد أنه سيحب إحدى زوجاته أكثر من الأخريات، وفي هذا حذر الله تعالى في القرآن الكريم: "فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" أي لا هي مطلقة ترجوا الزواج، ولا هي متزوجة تتمتع بما تتمتع به النساء المتزوجات.

وبتحقيق العدل المادي والانتباه إلى العدل المعنوي، يصبح تعدد الزوجات بعيد كل البعد عن الاستهتار والعبث، بل يتحقق الهدف من إباحته وهو تحصين النساء من العوانس والأرامل والمطلقات والمعلقات، وكذلك تحصين الرجل الذي لا تكفيه زوجة واحدة لتحصينه لأسباب مختلفة ومتعددة كمرضها أو عدم قدرتها الصحية على الإنجاب مثلا.

الإسلام بما اتسم به من شمولية النظرة لدقائق وتفاصيل الحياة الإنسانية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، إنما كان يتوخى أن يجعل لكل مشكلة علاجا نافعا، وعنايته بمشاكل الأسرة والحياة الاجتماعية ثابتة وعظيمة بحيث لم يبق فيها مجالا لمزيد من انحراف الاجتهاد أو ضلال التأويل.

النساء وهن نصف المجتمع أو يزيد، تكمن مشكلتهن الكبرى في عفافهن ماديا ومعنويا، وهذه الحاجة الملحة اقتضت وجود بعض المرونة في التشريع كي تتلاءم مع وسطية الشريعة السمحاء، لذلك أباح للرجل أن يجمع في عصمته أربع زوجات في وقت واحد كحد أقصى على خلاف ما كان سائدًا في عصر الجاهلية من إباحة التعدد بغير حصر.

ومع إباحته شرعًا، فإن المشرع قد أحاطه بتشريع يكفل حفظ الحقوق الزوجية وهو ضمان تحقيق العدل بين الزوجات، فالمشرع الذي أباح التعدد أوجب العدل فيه بين الزوجات خاصة وبين الناس عامة.

ويتجسد العدل هنا بإعطاء كل زوجة حقها الشرعي من البيت والنفقة، وأمر عند الشعور بالعجز عنه أن يبقى الرجل على امرأة واحدة خشية الوقوع في ارتكاب الظلم الذي عاقبته كبيرة في الدنيا والآخرة لأنه يكون قد فرط فيما أوجبه الله تعالى من العدل، ولا يكلف الله تعالى إلا ما فيه الوسع والطاقة.

أما العدل في المحبة، فإنه لا يقدر عليه أحد لأن القلوب بيد الله تعالى، على أن لا تكون تلك المحبة حاملة على ترك حقوق الزوجات الأخريات ، وإذا كان التعدد جائز، فالعدل واجب وتركه إثم كبير.

غالبا لا يتزوج الرجل بامرأة أخرى دون سبب يدعو لذلك، كعدم قدرته الصبر على امرأة واحدة تعتريها الأعذار الشرعية سواء المانعة من الاستمتاع التي يمكن أن تدفعه بعيدًا عن طريق الحلال نحو الحرام، أو قد تعود إلى حاجته للإنجاب وثبت أن امرأته عاقر، أو لسفره بعيدًا عن أهله وخاف على نفسه أن لا يقيم حدود الله.

وقد يعود السبب إلى إرادته في إعفاف المرأة التي أراد أن يتزوجها، أو أن له هدف اجتماعي أو إصلاحي نبيل وأسمى ومعقول في التعدد، ويكون قادرًا على تحقيق العدل، وعلى ذلك تتضح الحكمة من إباحة تعدد الزوجات اجتماعيًا وخلقيا وشخصيا، لأنه جاء للمصلحة العامة أكثر منه لرغبات الأفراد، وإباحته توجب العدل، ولا ريب أن المرأة المؤمنة تغلب جانب الشرع الذي يكفله لها إيمانها بالله وقضائه وقدره على جانب العاطفة، وهي إن رضيت بذلك فستعيش حياة هنيئة مستقرة كما عاشت أمهات المؤمنين وسائر نساء السلف الصالح الذين كان التعدد عندهم لا نزاع حوله ولا إشكال فيه.

لقد أعطى الإسلام صورة عملية رائعة للتعدد، وأعطت الشريعة الإسلامية السمحاء الجواب الشافي والحكمة الربانية والصورة المشرقة بآيات الرحمة والتكافل وتحمل المسؤولية وترابط المجتمع في أبهى صوره.

وقدم أيضًا الدين الإسلامي علاجا شافيا لأثر الحروب والكوارث وظاهرة قلة الرجال وكثرة النساء والأيتام من الأطفال وانحراف النساء والعوانس، إلا أن الصورة السيئة التي يعطيها بعض المعددين والتي تسوقها الكثير من الأفلام السينمائية والأعمال الدرامية حول تعدد الزوجات، تعكس مثالًا مشوها لهدم قدسية الحياة الزوجية والالتفاف حول تعليمات الشريعة، من خلال رسائل في قالب فني يتلقاها البسطاء بسذاجة تدعو للرثاء لتحويل الزواج من علاقة سامية ذات أهداف وغايات أسمى إلى مجرد المتعة الوقتية وللذة الجسدية وما فيها من امتهان لكرامة المرأة وآدميتها متى تمتعت بالمزايا الشكلية والجسدية التي إما أن تبقيها أو تصبح قابلة لتفضيل غيرها عليها إن هي فقدت مواصفات الشكل والجسد وهو عمل إجرامي، لأنه يتطاول على ما أقره ديننا الحنيف، واستقرت عليه المذاهب كلها.

فعندما أقرت الشريعة تعدد الزوجات، وضعت له ضوابط واضحة لم تتركه على إطلاقه، والاستثناء المشروط بالعدل يخرج التعدد من دائرة الإباحة المطلقة إلى الإباحة المشروطة حينما تتوفر أسبابها.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: التبول اللاإرادي عند الأطفال.. أسبابه وعلاجه