د. رانيا يحيى تكتب: باليه سندريلا.. قصة حب على أنغام الموسيقى 

كانت قصة سندريلا تستحوذ على اهتمامنا خلال سنوات الطفولة، ولكن حين نراها تتجسد على المسرح بأداء تعبيري إيمائي صامت؛ من خلال لغة الجسد، بمهارة من الراقصين، فهي تخاطبنا بصريًا بجانب ما تحققه الحالة السمعية من تأثير بفضل الموسيقى الساحرة في الخلفية والتي وضعها المؤلف الروسي الشهير سيرجي بروكفيف.

وعكف "بروكفيف" على كتابتها أربع سنوات متتالية منذ 1940 وحتى انتهى منها عام 1944، وهو "باليه سندريلا" الذي تم عرضه على مسرح البولشوي لأول مرة في 21 نوفمبر عام 1945 عن قصة نيكولاي فولكوف بتصميم رقصات الكيروجرافي الشهير روستيسلاف زاخاروف؛ وبقيادة المايسترو يوري فاير؛ وفي العام التالي قُدم على مسرح كيروف، وهو أحد المسارح الكبرى، وبتصميم جديد لـ "كونستانيتا سيرجييف".

 

ويُعد فن الباليه واحدًا من أرقى الفنون، وتُستخدم فيه الألحان والنغمات بجانب الأداء الحركي كوسيلة للتعبير عن الانفعالات والأحداث الدرامية بدلًا من الكلمة المنطوقة بأداء أكثر رقة مخاطبًا الجماهير في شتى بقاع الأرض على اختلاف لغاتهم وأجناسهم، ومن أشهر فرق الباليه وأعرقها "البولشوي الروسي" التي قدمت أهم عروض الباليه وما زالت تمتع متذوقي هذا الفن الرفيع في مشارق الأرض ومغاربها، تجوب الأقطار هنا وهناك.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]رانيا يحيى د. رانيا يحيى[/caption]

وفى منتصف القرن الماضي كتب "بروكفيف" تسعة عروض باليه، لكن أشهرها على الإطلاق كان باليه "سندريلا"، وهو من أكثر الأعمال شعبية بالإضافة لما يتمتع به من جمال الألحان وروعتها والنسيج اللحني الخصب الذي عّبر عن الأحداث الدرامية للقصة بمنتهى السلاسة والإتقان، ويتكون الباليه من ثلاثة فصول تسبقها مقدمة موسيقية، وتدور قصته حول الفتاة الجميلة سندريلا التي تتعامل أسوأ معاملة من زوجة أبيها وابنتيها الدميمتين، والتي تزوجها والدها بعد وفاة أمها فيتعاملن معها وكأنها خادمة في المنزل، كما كانت تتملكهن مشاعر الغيرة والحقد والكراهية تجاه سندريلا، وذات يوم أعلن الأمير عن رغبته في الزواج؛ وذلك عن طريق تنظيم حفل كبير داخل القصر تُدعى له كل بنات المملكة ليتمكن من اختيار العروس المناسب، فتقرر زوجة أبيها أن ترسل ابنتيها وترفض مشاركة سندريلا لعدم امتلاكها الثياب المناسبة ولأنها ترى أن ابنتيها في منزلة أرفع لم تصل لها سندريلا.

 

وبالفعل تمكث سندريلا حزينة فتظهر لها جنية طيبة تحاول مساعدتها في الذهاب إلى القصر دون علم أحد، شريطة أن تعود سندريلا فى الموعد المحدد قبل منتصف الليل، كما حولت الجنية ملابسها البسيطة إلى ملابس فخمة تتناسب وحفل الأمير، وأثناء الحفل يأتي خبر للأمير بقدوم أميرة فاتنة إلى القصر، وحينما تتقدم سندريلا يستقبلها الأمير ويحسن معاملتها، ما يشعل نار الغيرة لدى الفتاتين، وأثناء تواجد سندريلا في القصر تنشغل بالتحدث إلى الأمير فتنسى تحذير الجنية وتتأخر عن الموعد المذكور، وما أن تتذكره حتى تسرع نحو باب القصر ويسقط منها أحد زوجي حذائها، وأثناء تجول أحد حراس القصر يجد الحذاء فيتوجه للأمير الذي يقرر أنه سيتزوج من الفتاة التي سيتطابق الحذاء على قدمها،  وتتهافت الفتيات على الحذاء لقياسه متمنيات الحصول على شرف الزواج من الأمير، ثم يعثر عليها الأمير بعد اكتشافه أن هذا الحذاء خاص بها، وفى التو يعلن زواجه من سندريلا، وينتهى الباليه نهاية سعيدة بهذا الزواج وخلاص سندريلا من تلك الحياة الشقية التعسة.

باليه سندريلا

ولا يمكن أن نغفل دور الموسيقى الرائعة التي كتبها "بروكفيف"؛ وصاغ توزيعها لأوركسترا كبيرة تتكون من الآلات الوترية وآلات النفخ بأعداد كبيرة نسبيًا لتتماشى مع الهارمونيات الحديثة والبوليفونية اللحنية من خلال 3 آلات فلوت ومثلها من آلات النفخ الخشبية "الأبوا، الكلارينيت، الفاجوت، و4 آلات كورنو، و3 للترومبيت، ومثلها للترومبون وآلة باص توبا، بالإضافة لآلة الهارب وآلة بيانو وآلات الإيقاع المتنوعة.

 

وكانت موسيقى بروكفيف مزيجًا من التناقضات الحادة بين القوة والرقة بالإضافة لقوميته التلقائية غير المتعمدة النابعة من داخله، والتي تدل على ارتباطه العميق ببلده وبالبيئة التي شكلته نفسيًا وفنيًا، كما يعتبر أسلوبه الساخر الذي يميل إلى الدعابة والمرح هو أكثر سماته المميزة لطابع الموسيقى الروسية للدلالة على العواطف والشعور البشري، وتكاتفت الآلات الأوركسترالية المشاركة جميعها بتلوينات صوتية استخرجها بروكفيف من المساحات الصوتية الآلية التي دعمها بالتكنيك الاستعراضي من تلك الآلات واستخدام مساحات صوتية من أقصى درجات الحدة إلى أعمق الأصوات غلظة وما بينهما، مع استغلال ظلال الأداء والتحكم في درجات القوة والضعف والتدرج بينهما؛ بما يخدم الدراما المسرحية.

كما عملت الإيقاعات على بث روح التعاطف والانكسار ثم الفرحة والانتصار للحق بالموسيقى وبالتبعية حركيًا ودراميًا بشكل مثالي، فكانت أدواته الموسيقية متميزة من حيث التأليف والصياغة اللحنية والموسيقية.

 

وأعتقد أن الجماهيرية الكبيرة التي حققها هذا الباليه ترجع لسببين؛ أولهما: القصة الشهيرة لهذا الباليه والتي تُرسخ في أذهان الصغار والكبار -على حدٍ سواء- حالة من التعاطف والتعايش مع سندريلا بطلة القصة، والثاني: الموسيقى الرائعة والألحان الخلابة التي أبدع فيها "بروكفيف" بكل تأكيد، ووضع فيها خلاصة خبرته في التأليف وإمكاناته المتميزة كمؤلف، معتمدًا على عناصر التأليف، مثل الإيقاعات النشطة والبراقة بما فيها من حيوية ومرح وأداء تكنيكات سريعة من الآلات الموسيقية المختلفة في الأوركسترا، مع استخدام الهارمونيات الغريبة وغير التقليدية والتي اعتمدت عليها موسيقى القرن العشرين، فصنعت ألحانًا ميلودية مبهجة ذات رنين صوتي مميز، وحالة جمالية ممتعة للمتلقي.

 

اقرأ أيضًا.. فيديو| بعد فقدان بصرها.. «الأمير بدر بن فرحان» يوجه رسالة للرسامة نورة