لا أظن حياة بني آدم تختلف كثيرًا عن حياة بقية الكائنات، حتى الحشرات، فهي تبدأ بميلاد وتنتهي بوفاة. كما أن الحاجات البيولوجية نفسها قائمة، من تغذية، وتنفُّس، وتزاوج. وكذلك مراحل هذه الحياة لا تختلف: طفولة عابثة، فشباب طموح مغرور، ثم نضج، فشيخوخة.
ولا فرق بيننا وبينها إلا ما يعلمه الجميع، وهو “العقل الواعي المدرك”. الذي يحوِّل مراحل حياة الإنسان إلى برامج عمل هادفة متتابعة. وبقدر شد هذا العقل، وصدق العزائم، ونبل النيات، تكون المراتب بين البشر، وتكون بالطبع الفوارق. فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وهل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون؟
إن الفوارق قائمة، وستظل كذلك، مادام هناك تفاوت في قدرات الأفراد، واختلاف في إمكانياتهم، وتباين في حجم طموحاتهم، وسقف لآمالهم في الحياة.
وفي الحقيقة، لا أتصور وجود فرق حقيقي بين شباب في مقتبل حياتهم العملية. حين وقعوا لأول مرة على عقود العمل، فقد كانوا جميعًا على خط بداية السباق سواء، ثم انطلقوا معلنين طيَّ صفحة طويلة وشاقة من التحصيل الدراسي، وفتح صفحة جديدة من العمل والكدّ في مسار مهني تتجدّد عبر محطاته الأحلام، وتتحقق فيه كثير من الأمنيات الشخصية والعملية والاجتماعية.
إنه مسار مفروض بأمر الدنيا وشريعة الدين، مسار مليء بالظروف المفرحة والاعتبارات المشجعة على البذل والعطاء، والدافعة إلى التفاؤل. وقد تكون هذه الظروف أحيانًا مخيبة للآمال، ويبقى الفلاح آخر المطاف لمن صبر وثابر.
إنه مسار النشاط الحقيقي للإنسان، حين يكون مزودًا بالمعارف والعلوم التي تؤهله ليصبح عنصرًا فاعلًا في مجتمعه، بعمله المتواصل ونشاطه الحي. وليكون كذلك عضوًا مؤثرًا في بلوغ أمته مراتب الرقي والتطور، مهما كان نوع عمله. فالنشاط الإنساني في أي مجتمع هو محصلة أعمال أفراده، كل منهم مكمّل للآخر أو متمم له. هكذا يفترض أن تمضي سيرورة الحياة.
من منا ينسى لحظة توقيعه على عقد العمل لأول مرة؟ إنها اللحظة التي تختلط فيها المشاعر، وتتقاطع فيها التطلعات، الممكن والمستحيل، الممنوع والمرغوب، القناعة والطمع.. إنها لحظة يتسع فيها بصر الإنسان نحو أهداف أعاد رسمها في أفق بعيد. وقد يشتد ولعه بتحقيق هذه الأهداف على وجه السرعة، فيُلغي في سبيلها، وفي الآن ذاته، بصيرته.
ما دور الوظيفة في الحياة؟
الوظيفة وسيلة للكسب المادي، وهذه حقيقة، ولكن بشرط أن يكون ذلك بالكسب الشريف والعمل المخلص، القائم على الشعور بالالتزام، لا بانتظار الإلزام. فالعَمل في حد ذاته وسيلة لتحقيق النجاح وإثبات الذات، وليس مجالًا للغرور أو التعالي.
لقد قضى بعضهم أعمارهم العملية دون أن يضيفوا شيئًا أو يُحدِثوا أثرًا، فلم يجدوا أنفسهم، ولم يجدهم المجتمع نافعِين، لأنهم افتقروا إلى روح المبادأة، وضعفوا عزيمة، واستكثروا على أنفسهم عناء التجربة، ولو من باب المحاولة.
في المقابل، نجح آخرون في تخليد أسمائهم بما امتلكوا من قدرات بحثية، وكأن نفوسهم كانت تفتش عن التحديات تفتيشًا، وتَشْتاق إلى التجديد والتحديث، فدأبت عقولهم على الابتكار والإبداع. وهكذا كان لكل مجتهد نصيبٌ ناله، وحصاد عمله قد جناه، في يوم لا يرغب أحد في قدومه ولا يتمناه، ولكنه قادم لا محالة.
ذلك هو اليوم الذي يجمع فيه الموظف متعلقاته الشخصية، ويسلّم عهدته لزملاء أصغر سنًّا، ويغادر موقع عمله الذي ألفه سنوات طوالًا، وعايش فيه همومًا وأعباء أثقلت كاهله واستنزفت قواه. ومع ذلك، يدرك أن هذا هو جوهر العمل. وأن ما بعده قد يكون بطالة تعني “ثالوثًا رهيبًا”: الجوع، والفقر، والمرض.
قد تبدو بعض أيام العمل مؤلمة، لكن الإنسان يذكرها في النهاية بوجدان خاص، وعاطفة جياشة، وحنين شفيف، حتى ليتمنى لو طالت، ولكن عقارب الساعة لا تتوقف، والأيام الخوالي لا تعود، والعمر يتقدّم ويتقدّم. هذه سنّة الله في خلقه.
ومع كل هذا، يبقى العزاء أن الإنسان أعطى دنياه التي خُلق لأجلها ما تستحق من جهد وعرق، ودم ودموع. فبأي تجربة يمكن أن نفتخر، وأي خبرة يمكن أن نزعمها دون عمل؟
هذه وقفة أردتُها رسالةً لتمجيد العمل وتعظيم فضائله، وللدعوة إلى مواصلة تكريم العلماء المجتهدين في كل المجالات، أولئك الذين وهبوا أعمارهم للوطن، ولا ينتظرون سوى تكريم الوطن لهم، وما ذلك بكثير على من أوفوا حين تعاقدوا على العمل بإخلاص… حتى تقاعدوا.