فيلم The House.. من حيث بدأنا نعود

لم تكن محاولة تأويل فيلم The House، وهو فيلم رسوم متحركة، Enda Walsh وأخرجه كلٌ من نيكي ليندروث فون بحر، بالوما بايزا، وهو من إنتاج شبكة نتفيلكس، سهلة بحال من الأحوال؛ فالفيلم حافل بالرموز مترع بالإشارة.

يدور الفيلم، على مدى ساعة ونصف الساعة، على ثلاث حكايات منفصلة، يمكن القول إن كل جزء أو حكاية فيه تمثّل مرحلة معينة من تاريخ الحداثة، في الجزء الأول نرى أسرة من العهد الفيكتوري تقريبًا، وربما تعود إلى القرن الثامن عشر، تحيا في بيت متواضع.

يأتي إلى أهل البيت _ وهم زوج وزوجته وطفلتيه _ أناس أقربائهم، فيلومون الزوج "ريموند" على عيشته المزرية رغم ما يتوفر لديه من إمكانيات، وهذا هو خطاب الحداثة، في القرن الثامن عشر بالتحديد، يصاب الرجل بالإحباط فيخرج من البيت ليلًا، يعود وقد عقد اتفاقًا مع شخص غريب الأطوار، مهندس معماري وفنان يدعى فون شونبيك، مفاده أن يبني له بيتًا.

وبين عشية وضحاها، تنتقل العائلة إلى البيت الجديد، وهناك تحدث مآسٍ جمة، المهم أن الأمور لم تسر على النحو المطلوب، ولا على ما يرام.

وتلك كانت الإشارة الأولى في الفيلم التي تقول إن الحداثة ما أفلحت، وما وفت بوعودها.

في الجزء الثاني، تحدث نقلة على صعيد الزمن، نتقدم حوالي قرن ونصف أو قرنين، فنرى بيتًا عصريًا، صاحبه فأر _ وتلك كانت مقصودة عن حق فالإنسان الحديث قارض بامتياز _ همه أن يبيع هذا البيت الذي أنفق فيه حياته وأمواله. يتواصل مع الخلق أجمعين بهاتفه المحمول وأدواته التقنية، وهو رابض في مطبخه، مقيم في حجرة بالية من البيت الحديث العصري هذا.

يفاجئ الفأر صاحب البيت بأن البيت مترع بالحشرات، يتوسّل بجوجل _ إله العصر الحديث الخفي _ كي يعرف أفضل السبل للقضاء على هذه الحشرات، لكن لم يفلح، والفشل في القضاء على الحشرات هو فشل الأدوات الحداثية الجديدة، وتلك إشارة أخرى كبيرة. والفيلم مرثية أو قداس جنائزي للحداثة وتاريخها.

ليس هذا فحسب، بل إن الحشرات تكثر وتتعاظم في البيت كلما استخدم الفأر صاحب البيت المبيدات، حتى إنها _ أي الحشرات _ أعدت حفلًا سرياليًا في البيت، وكأنها تسخر من إنسان العصر الحديث، المهزوم أمام أوهن الأشياء، أذاك حقًا هو الإنسان المُسلح بالعلم والتقنية؟! المهم أن صاحبنا يفشل في بيع البيت، بل وتحتله الفئران الأخرى، التي جاءت في الأصل بغية شرائه، ويتحول البيت إلى مستعمرة فئران كبيرة.

في الجزء الثالث، تستبين الفكرة تمامًا، ويتضح عن حق أن الفيلم إنما كرس نفسه من أجل إعلامنا بفشل كل المشروعات الحداثية، كأن صناع الفيلم يخرجون لنا ألسنتهم، أهذه هي الحداثة حقًا؟ أتلك هي وعودها؟ أهذا هو الإنسان الذي وعدتمونا أن يسود الطبيعة ويستعبدها؟!

في مطلع الجزء الأخير، نرى المظهر الخارجي للبيت _ والبيت هو البطل الحقيقي الوحيد في الفيلم _ وكأن فيضان قد عمّ المنطقة فابتلعها إلا هذا البيت، وهو مملوك لامرأة شابة تُدعى روزا، همها إصلاح البيت _ فالبيت مهترأ متهدم، وتلك إشارة أيضًا _ كيما تجلب مستأجرين يدفعون لها أموالًا لإصلاح البيت وترميمه.

فهي في الحقيقة ليس لديها سوى مستأجرين اثنين، الأول "إلياس" يصطاد من مياه الفيضان ويدفع الإيجار على هيئة سمك، والأخرى "جين" تقدم لها أحجارًا تقول لها إنها ستعينها على طرد الطاقة السلبية.

والملاحظ هنا أمران، من بين أمور جمة يند المقام عن حصرها، أننا عدنا إلى نظام المقايضة، وذاك طعن للرأسمالية في الخاصرة، والثاني أن كل وعود الحداثة فشلت فصار الحل هو العودة إلى روحانيات الشرق.

تمثّل "روزا" الإنسان الأعمى الذي لا يرى الحقائق؛ فالبيت ينهار، والفيضان يلتهم كل شيء، وهو في عالم آخر مواز، اجتازها الزمن حرفيًا. يرحل الجميع عن البيت وروزا، إلى وجهة لا أحد يعلمها، فقط يعدون من خشب البيت قوارب، وينطلقون في مياه الفيضان إلى وجهة غير معلومة، ولن تجد روزا بُد من اللحاق بهم، وكأن قدر الإنسان الحديث أن يعود إلى ذات النقطة التي منها بدأ، ثم يرحل إلى وجهة لا يعلمها.

اقرا أيضًا: «كلهم على حق».. يسوع السائر على رأسه