صبحة بغورة تكتب: هل الطفولة الحديثة مرهقة؟

يحذر خبراء التربية دائمًا، من أن الطفولة الحديثة أصبحت مرهقة على نحو متزايد على مدى العشر سنوات الماضية، وتلمسوا أسباب هذا الإرهاق في ضغوط وسائل الإعلام والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي التي أدت لبروز التحرش العلني عبر الانترنت، والتوتر الدراسي وتفكك الأسرة.

وأكدوا أيضًا، أن هذه الأسباب تؤدي إلى تفاقم المشاكل الصحية والعقلية لدى الأولاد في سن مبكرة.

لقد باتت طريقة تربية الأبناء هي المعضلة الكبرى التي تعاني منها كثير من الأسر والعائلات، بسبب تأثر أبنائها بمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى مشكلة تعيق الوالدين في التحكم في زمام الأمور بعدما أصبحت هذه المواقع تمثل البوصلة التي تضبط تحركاتهم وتحدد تصرفاتهم وتشكل أفكارهم.

الآباء يتذمرون من عدم انتظام ساعة نوم أبنائهم وبقائهم ساهرين على واجهة الإنترنت إلى وقت متأخر، والأمهات على حافة الجنون بسبب بناتهن اللواتي أصبحت الحشمة والحياء آخر ما يفكرون به، إنها صراعات كثيرة وفجوة كبيرة أدخلتها تكنولوجيا الاتصال والتواصل.

ينبهنا خبراء التربية بالتحذير من ملاحظة هامة وهي بروز ظاهرة الاكتئاب لدى تلاميذ المدارس الابتدائية وإصابة بعضهم بالتوتر العصبي الحاد، أي ذلك التوتر الذي ينتج عنه ردود فعل عنيفة غالبًا ما تكون في الكثير من الحالات غير متوقعة وتبلغ حد الانهيار العصبي.

كما يفسر نفس التحذير، سبب قلق أولياء التلاميذ من ارتفاع ظاهرة تراجع التحصيل الدراسي لدى أبنائهم، والضعف المزمن في قدرة استيعابهم للدروس والمعلومات؛ وهو ما تؤكده النتائج الهزيلة في نهاية كل عام دراسي.

وانطلاقا من طبيعة الظاهرتين، يمكن القول أن المسؤولية عن هذا الوضع المؤسف مشتركة بين الأسرة والمدرسة، فالأهل ضاعوا في كيفية التعامل مع أبنائهم وأسلوب التربية الذي يتخذونه لجعلهم يحكمون سيطرتهم عليهم، خاصة بعدما جعل الانفتاح التكنولوجي من تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتنوعها المتحكم الأول في تصرفاتهم.

لم يعد التطور التكنولوجي في وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي نعمة كما كان الظن، لقد تحول إلى شبح يخيف الأسر من خطورة ما يواجهه حاضر أبنائها وما يغلف مستقبلهم بشأن الكوابيس حول حقيقة هوية من يتواصلون معهم والهواجس التي تجعل مرجعيتهم الدينية والأخلاقية التي ستشكل منظومتهم العقائدية محل شك في نزاهتها، بعدما أصبح الفيسبوك مثلا صديق الفتاة بما يحويه من أصدقاء لا نعرف عنهم شيئا، وهم على اتصال دائم ومستمر بها، يسمعونهم ويقرِون أفكارهم، يحاورونهم ويحدثونهم، يستشيرونهم وأكيد يأخذون بنصائحهم في غفلة من أمها التي تكون قد كرهت رؤية ابنتها منكبة على هاتفها الخلوي، أو ابنها الغارق في عزلته التامة بعيدًا عن محيطه بعد انفصاله الكلي عن واقعه.

يتواصلان بشكل مستمر مع أصدقائهم المفترضين ويصلان معهم الليل بالنهار دون مراقبتهم، ومعرفة ما يجمعونه من معلومات أو ينسجونه من علاقات اجتماعية أو حتى عاطفية، ولأشد ما يسوء الأهل أن يروا أبناءهم غير أكفاء لمواجهة تحديات واقعهم المعيشي، يفتقدون روح المسؤولية، تصرفاتهم أقرب إلى التفاهة، يتخذون من وسائل التواصل وسيلة سهلة للوصول إلى المبتغى السلبي.

المتفق عليه، أن أساليب التربية أضحت أكثر صعوبة من ذي قبل وأشد إحراجا في معالجة هذا الأمر؛ إذ لم يعد القمع والعقاب يجدي نفعا بل أصبح العلاج يتطلب اتخاذ أسلوب تربوي حازم وهادئ، يميل إلى الجمع بين الليونة والصرامة واتباع طرق ذكية للتأثير على الطفل وتخليصه من أسر الوسائل التقنية الحديثة بشكل متدرج.

ومن الضروري مراقبة الأبناء والتحدث معهم ومحاورتهم وتحقيق طلباتهم؛ حتى يأمنوا ويصارحوا أهلهم بما يشغلهم واحتضانهم وإعادة ترميم الفجوة التي فصلت بينهم.

وهناك من الآباء من تمكن من استعادة ابنه الذي كان يتفادى رؤية والديه حتى لا يفوت رسالة أو يضيع لقطة.. لقد استطاع أن يرمم القليل مما ضاع منه بعدما أشعره أن له مكانة في حياته فأحكم من حينها سيطرته عليه.

ومن الآباء من وجد في أسلوب العصا لمن عصى الخيار الوحيد لفرض سيطرتهم على أبنائهم وإنقاذهم، ولو بلغ حد الضرب والمعاملة الخشنة ونعته بأقبح الأوصاف، فتحولت حياة الأسرة إلى جحيم لا يطاق بعد أن هدد الطفل بالهروب من المنزل ليتخلص من "ظلم" والده، فمن يعتقد بأن مثل هذه المسائل لا تحل إلا بالعنف إنما يزيدها تفاقما ويحولها إلى مأساة وصراع مستمر ينعكس سلبا على جميع أفراد الأسرة نفسيًا.

الضرورة تقتضي ترسيخ الأخلاق والمبادئ أولًا، ففي زمن الانفتاح الإعلامي ومع انتشار الثقافات والتقنيات والقنوات الفضائية، أصبح الشباب يعيشون في مفترق طرق وتحت تأثير متغيرات كثيرة لم يعد معها المربي هو من يقوم بمهمة التوجيه التربوي والأخلاقي، لأن الوسائل الحديثة للتواصل الاجتماعي أفقدت التربية دورها وأهميتها وهيبتها.

وما يتعرض له الشاب تتعرض له الفتاة، وهنا مكمن الخطورة التي لا تؤثر في جنس دون آخر؛ إذ لا يمكن التمييز بين الذكر والأنثى في هذه الحالة، كما أنه ليس مقبولًا مواجهة الخطأ بخطأ آخر في التعامل مع الأبناء، تجنبًا لتعرضهم لأزمات نفسية، فقد تشعر البنت أحيانا بأن ظلما قد حاق بها؛ فتتفاقم ردود فعلها نحو خطئها، وقد يتصرف بعض الأولاد بوقاحة لعلمهم أنهم قد كشفوا أمام والديهم فيستهترون بأفعالهم.

عندما يحسن الأهل كيفية التربية بدءً من الطفولة حتى مرحلة المراهقة، لن يجدوا صعوبة كبيرة في التعامل مع أبنائهم لأن في حال كان الأساس صحيحًا فلا مجال للتأثير السلبي مستقبلا أيا كان نوعه ومصدره.

والحفاظ على الأجيال هو مهمة الآباء والأمهات، و رسالتهم الخالدة ترسيخ مفهوم الأخلاق وهي مهمة تمر بالعمل المستمر لتقليل الإدمان على استخدام الأجهزة الذكية بشكل تدريجي، وفي المقابل إيجاد وسائل أخرى جديدة لتنمية المواهب الرياضية والفنية، ومحاولة دمج الشباب بالوسائل التقنية الحديثة في حركة المجتمع وتعويده على استيعاب مسؤولياته.

إن آليات التربية الحديثة ترتكز على ضرورة التحول إلى الأسلوب القائم على الحب والتقدير، ومن الضروري الاعتراف بتغير الزمان وتبدل الأحوال، فما عادت الأمور تسير دائمًا كما تم التخطيط لها، ولم تعد الموازين القديمة توازن المعايير الحديثة لتربية الأبناء، لذلك لابد من مواجهة الواقع المعاصر بما يناسب معطياته بالمزيد من الثقافة والتأمل لتطوير نمط التفكير في أصول التربية الحديثة التي تحوي في مضمونها رسائل إيجابية لا ترى بأسا في أن يكون الشاب مختلفا، أو أن يرتكب خطأ، أو أن يرغب في المزيد من شيء، وأن يعبر عن مشاعر سلبية أو أن يقول لا، ولكن عليه أن يتذكر أن والديه هما المتحكمان في زمام الأمور.

ومن المفيد، استخدام صيغة الطلب أفضل من صيغة الأمر، والابتعاد عن التوبيخ عند طرح الأسئلة، وعدم طلب تفسيرات لكل الأمور دائمًا، وتفضيل اتباع الأسلوب المباشر مع الطفل، والتوقف عن إلقاء المحاضرات المطولة وعدم الاعتماد على المشاعر لابتزاز الطفل.

ولابد من الإلمام ببعض الأساليب التي يمكن أن تحد من مقاومة الطفل، من خلال معرفة طبيعته ثم الأسلوب الأمثل للتعامل معه، فالأطفال مرهفو الحس تزيد حاجتهم للاستماع والإصغاء والفهم، والأطفال النشيطون يميلون إلى الإعداد الجيد والمتقن والتنسيق، والأطفال سريعو الاستجابة نلاحظ حاجتهم إلى الإلهاء والإرشاد والتوجيه، والأطفال المتفتحون يمكن التعامل معهم انطلاقا من معرفة مدى حاجتهم إلى دفء العادات والتقاليد والطقوس والتناسق.

وتحتاج التربية السليمة، أيضًا، إلى اتباع أساليب التشجيع والتحفيز لضمان تفاعل الأبناء واستجابتهم بصورة سليمة، وتحتاج إلى الحفاظ دائما على هدوء الأعصاب واستخدام الاستبعاد المؤقت، وشرح الهدف منه، وهو ما يساعد الطفل كثير للسيطرة على توتره.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: تجاوز أزمة الرسوب المدرسي بين ألم الطفل وخيبة الأهل