صبحة بغورة تكتب: صراع التربية بين هدوء الخلاف وحدة الاختلاف

طبيعي أن تنشب بين الأزواج خلال مسيرة حياتهما معا بعض الاختلافات في الرأي بين الحين والآخر، كما ليس مستغربًا أن تتباين مواقفهما في الكثير من المسائل المعيشية.

ولكن ليس مقبولا لأي سبب من الأسباب، أن تتطور الأمور لتعكر أجواء الوفاق في علاقتهما وتمزق روابط الوئام بينهما، وتحديدًا بسبب التسلط في تربية الأطفال واحتكار رسم مستقبلهم، وللأسف هذا ما يقع بالفعل بحجة الخوف عليهم وبدعوى الاهتمام بهم الذي يتحور في شكل جدل عنيف، سرعان ما يتحول إلى صراع يومي حاد حول أسس تنشئة الأبناء وأسلوب توجيههم.

عادة ما ترتبط اتجاهات وميول الوالدين بعملية بناء شخصية الطفل وبجهودهما لرسم معالم حياته ومستقبله، ويتشكل جوهر اتجاهات الوالدين من طبيعة ومستواهما الثقافي والقيم السائدة في الأسرة، ومن جملة ما تؤثر به المؤشرات الاجتماعية من دعاية وإعلام وفنون وتعليم، ومما توعز به قطاعات التجارة والمال والأعمال من مبادئ أصيلة ومستحدثة وأنماط سلوكية مختلفة، إلى جانب ما تفرضه القناعات الشخصية المتراكمة من خبرة السنين وتجارب الحياة.

فغالبًا ما تتشكل شخصية الفرد عندما يتبنى الاتجاهات السائدة في مجتمعه ومن ثقافته التي تأثر بها وتربى وشب عليها، وعادة ما تنتقل نسبة كبيرة من مجموعها إلى الأبناء فيتشربون منها هم والآخرين المحيطين والمقربين منهم أيضا.

لذلك، نرى أن الأشخاص الذين حققوا نجاحًا وتمكنوا من بلوغ طموحاتهم من خلال الدراسة بالمدارس الحكومية العادية تتشكل لديهم ميولا إيجابية نحو التعليم العام، بينما تتكون قناعات أخرى تجاه التعليم الفني والصناعي لدى الطبقات العاملة البسيطة، أو ميولًا تجاه التعليم بالمدارس الأوروبية وغير العربية عموما لدي فئات أخرى قد ترى اختلافًا مريحًا في طريقة التعليم ومناهج التدريس بشكل ميسر وسهل ينمي المهارات الأساسية والقدرات العقلية، بالإضافة إلى احتمالات سرعة التوظيف في منصب عمل مناسب.

والحقيقة أن بعض الأوساط العائلية تجد من تمكنها في توجيه أبنائها التوجيه المتميز والعالي المستوى مجالا للتفاخر الاجتماعي، وللتمايز بالسلوك الغربي لدى الأبناء الذي سيبدو مثار إعجاب الآخرين من أقرانهم، إلى هنا فلا وجود لسبب موضوعي أو مبرر منطقي لنشوب خلافات أسرية، لأن التوجه يكاد يكون مشتركًا بين الوالدين والهدف تقريبًا واح.

أما إذا كان أحد الوالدين يفضل تفضيلًا نوعيًا محددًا لتخصص معين يحلم أن يرى ابنه فيه ويكون هذا التخصص مختلفا عن الذي أراده الطرف الآخر، فهنا تكون بداية المشكلة الكبيرة التي يمكن وبكل سهولة أن تؤدي إلى تعرض الأسرة كلها لعدة مشاكل اجتماعية عميقة واضطرابات نفسية مؤلمة لا يجب الاستهانة بها أو التهاون بنتائجها السلبية السريعة والمباشرة، أو التغاضي عن آثارها المستقبلية.

ويكون الأمر أكثر سوء إذا كان يتعلق بمرحلة مصيرية كالنجاح في الثانوية العامة التي تمهد الطريق لدخول عالم التخصص الدراسي الجامعي، أو الحصول على شهادة البكالوريوس أو الليسانس التي تفتح الباب لولوج عالم الشغل؛ إذ يحدث أن يشعر الابن بالحزن جراء تقييد حريته في اختيار نوع الدراسة التي يريدها وفق امكانياته ومجال التخصص الذي يميل إليه وطبيعة العمل الذي يناسب قدراته.

ومبعث حزن الابن في الحقيقة هو شعوره بأن حق من حقوقه الأصيلة قد سلب منه بحرمانه من حرية الاختيار وهذا ما يصيبه بالاكتئاب ومنه إلى تفضيل الوحدة والانزواء والعزلة عن الأهل أولًا؛ كتعبير عن اعتراضه على تدخلهم العنيف في حياته، ثم يتولد عن ذلك سلوك عدواني متسرع بسبب إصابته بالقلق والتوتر؛ فتتولد في دخيلة قلبه صراعات نفسية تؤثر كثيرًا على حالته الصحية وسلامته الجسدية واتزانه العاطفي، وعلى قدرته على التفكير السليم، كما يدفعه هذا الوضع إلى اللجوء غير العادي لأشخاص آخرين غرباء من خارج الأسرة والعائلة؛ للاسترشاد بآرائهم التي قد تكون صائبة وقد تكون غير مناسبة.

وفي الحالتين، تتعرض الأسرة إلى حرج الموقف جراء هذا التصرف الانفرادي وإلى تحمل نتائج آراء أباعد، ومن التداعيات المؤسفة أن يمتد هذا التوتر إلى إصابة العلاقة المباشرة بين الوالدين بالجفاء وانعدام النقاش المنطقي الهادئ والحوار الموضوعي الناضج، فتتشعب السبل للتوصل إلى القرار السليم القرار الذي غاب عن الوالدين في غمرة تسلطهما، وفرض رأيهما بشأن رسم مستقبل ابنهما.

فالقرار الذي كان يجب أن يضع في اعتبارهما أولاً، تحديد ميول الابن ومعرفة هواياته بعد تقدير حقيقة قدراته العقلية والكلامية وتقييم مستوى تحصيله للاتفاق على اختيار التعليم المناسب، بدلا من العصبية الزائدة والجدل العقيم أمام الأطفال.

والثابت أن الأسر المستقرة والسعيدة، تنتج للمجتمع أجيالا تنعم بوافر الحيوية وكامل الصحة وتمام العافية وتتمتع بالسلامة الجسمية والعقلية، وتقتضي حتمية الاستغلال الجيد والواعي المدرك لأهمية هذه النعم ضرورة أن يتجنب الوالدان الصراع والشجار ما أمكنهما خاصة أمام الأطفال الذين لا يطيقون حضور هذه المواقف.

وفي هذا وقاية لهم من الكثير من الأمراض الجسمية والنفسية والعصبية التي يخشى أن تصيب سلوكهم في القادم من أيام حياتهم بالكثير من الأنماط غير السوية تصدر عنهم كتعبير لاإرادي عن عدم الرضا، وعن الغضب والاعتراض، والرفض، وكانعكاس للرغبة في الانتقام، والخطورة في عصرنا الحالي تكمن في أن تبقى مسألة تحديد مستقبل الأولاد نقطة خلاف قائمة ومتجددة بين الوالدين ولا حل لها.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: المسؤولية وشجاعة اتخاذ القرار