صبحة بغورة تكتب: تقريب المسافات بين الأهل والمراهق

إنها مرحلة انتقالية قلقة في حياة كل إنسان يعيش اضطراباتها، وهو يشعر أن عالمه الذي ألفه واستكان إليه واطمأن زمنا أخذ يتبعثر، وأن الأيام تسير به وتتنقل من اللهو البريء عبر مشاهد مختلفة يريد أن يجد من يتكئ عليه ليجلي له مساحاتها الضبابية ويفسر له ما الذي يجري بالضبط.

لقد سبقت الإرادة الإلهية عند بلوغ المرء سن الحلم الإيحاء لكل كائن بطريقة وشكل بقاء جنسه وتكاثره، وفي هذه الفترة بالضبط تبدأ الفترة الحرجة التي تلف المراهق بجملة من التساؤلات الحساسة والحائرة، وتتوق نفسه إلى توضيحات تُخفف عنه قلقه النفسي وتهدئ اضطرابه الاجتماعي، وفي نفس الوقت تفسر له حكمة الوجود وأسرار الكائنات.

يمكن أن تكون سنوات المراهقة فترة صعبة على والدي المراهق، وأصعب على المراهق نفسه عندما تمر عليه الكثير من اللحظات الحرجة، ستهتز معها مشاعره البدائية وتخدش أحاسيسه البريئة؛ وحينها تتضارب الأفكار في رأسه ويتعرض للعديد من المواقف التي يسعى معها معنى الالتزام بالحلال ومغزى تجنب الحرام.

وعلى المراهق أن يتعايش مع محيط واسع من أقرانه في الحي والمدرسة يكابدون ما يكابد، فإنه قد يجد نفسه تحت ضغوط عديدة تدفعه إلى ولوج عالم آخر كان يسمع عنه، واليوم يرى الأبواب مشرعة أمامه على دروبه الواسعة التي ستخفي عتباتها الوردية آفاقها السوداء، وستغريه على خوض متعة التجربة وتدعوه إلى التعود على أسلوب الحياة العصرية بمفهوم غير ناضج؛ ليثبت أمام نفسه وللآخرين أنه لم يعد طفلا، فيتقلب بين إدمان السجائر والكحول ثم المخدرات فالجنس.. إنه يسلك طريقا مؤدية للانحراف نحو عوالم الجريمة.

الواجب هنا يفرض المواجهة المباشرة معه والسريعة بالتوعية والتصدي لسلوكه غير السوي، ولكن كيف يمكن أن نعلم المراهق بالمخاطر التي تتربص به بعدما باتت التأثيرات التكنولوجية أسرع تفعيلًا وأكثر تطورًا وأشد وقعًا وأعمق نحتًا لشخصيته؟!

سنوات المراهقة مرحلة طبيعية يمر بها كل البشر، لكنها تختلف في حدتها من شخص لآخر، وتكثر خلالها لائحة مطالب المراهق واعتراضاته وتمرده على الضوابط المنزلية والتقاليد العائلية بدعوى أنه لا يريد أن يشبه والديه، ويصرخ بالاستقلالية، والمفارقة أنه يريد أن يشكل هويته الخاصة في عالم متقلب ويتغير بإيقاع سريع على جميع المستويات، ومعه يتباين فكر وسلوك الأبناء عن الآباء؛ لذا تصعب مناقشته وهو يرى أنه انتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة، ويعتبر نفسه أكثر كفاءة مما يعتقد أهله؛ لذا يبدي ضيقه من القيود الأسرية التي يراها مفروضة عليه، وعدم رضاه عن نظرة الأهل له بأنه لا يزال طفلا وهو ما يجعله يمر بنوبة غضب وتعاسة سرعان ما تنعكس بالسوء على علاقته بوالديه ثم بإخوته.

ما يثير مخاوف الأهل من محاولات المراهق تجنبهم والابتعاد عن الاندماج في محيطه الأسري، هو أن المراهق يتعلم كل ما يعرفه عن الحياة من غيرهم، وأن الفتيان سريعي التأثر بما تنتجه الصناعات الموجهة للشباب ثم يستهلكون طاقاتهم ويضيعون أوقاتهم وهم يتداولون فيما بينهم ما يضرهم.

ويخشى الأهل أن يأتي اليوم الذي سيواجه فيه مراهق اليوم واقع العالم بشكله الحقيقي، وهو غير مستعد لذاك لأنه يختلف تماما عن العالم الذي رسمته له أحلامه ثم لن يكون أمامه متسع من الوقت لفهم طبيعة علاقات العمل واستيعاب أبعاد وحقائق الأوضاع؛ فيفقد ميزة سرعة التأقلم مع الظروف والتكيف مع متطلباتها.

من هنا نفهم أن سوء التفاهم الذي يطرأ على علاقة الوالدين بالفتى المراهق يعود إلى عدم تفهم دواعي جنوحه الطبيعي للحرية خلال مروره بأيام انتقاله من قيود مرحلة الطفولة إلى ضوابط مرحلة المراهقة، ولعل من أسباب بروز القابلية لحالة عدم التفهم هذه أن يميل الفتى في غير أوانه المناسب إلى أن يصبح رجلًا كبيرًا وكاملًا، وأن يؤكد على ذلك بالتدخين مثلا الذي قد يكون على سبيل تقليد أحد والديه، أو حب الظهور أمام أصدقائه بمظهر المغامر والتمرد والمخالف للقيم.

وهناك من المراهقين من ينشأون في بيوت غير مستقرة أسريًا، ويعيشون مشاكل داخلية حادة ويعانون همومًا اجتماعية وأمراضًا نفسية، ومثل هؤلاء سريعي الاستجابة لما يعتقدون أنه يريح أعصابهم ويهدئ بالهم وينسيهم همومهم ولو إلى حين كالتدخين أو المخدرات وشرب الكحول، والحقيقة أنهم ضحايا عصابات تستغل حيرة المراهق المتولدة من ملابسات واقعه المضطرب، وظروف حياته غير السوية، ومن ميله الطبيعي والمستمر إلى الاكتشاف وإشباع فضوله ورغبته الجامحة لإثبات ذاته وتأكيد تميزه وتلذذه بمتعة استعراض رجولته من أجل توريطه في عوالم الانحراف.

وعند محاولة إظهار الوالدين التفهم الايجابي والرشيد لحالة ابنهما المراهق، فإن المسألة تعني أولا معرفة لماذا يدخن مثلا؟ وإشعاره بالبؤس والتعاسة لكونه مدخنًا، واتباع سياسة اللين والتبسيط وتجنب الشدة والعصبية والتشنج والندم والتوبيخ، والتحلي بالصبر وسعة الصدر في سماع وجهة نظره، والتعبير عن رأيه دون صده بدلا من التهديد والوعيد، واستدراجه إلى القناعة بأن التدخين يبدأ أولا بحسن نية وبدون إصرار مسبق على الاستمرار فيه، ولكنه يمكن أن يتحول إلى عادة مستحكمة تلازمه مدى الحياة.

من أفضل ما يتبع في هذا الشأن، توجيه النصح بما يثير اشمئزاز الفتى من نفسه، فكل المراهقين يميلون إلى لفت أنظار الفتيات في المحيط العائلي والمدرسي والشارع، ويحاولون استغلال الفرص للحديث مع إحداهن، وعند تذكيره بأن التدخين شيء قذر وعادة كريهة، يجعل رائحة الفم نتنه، وكذلك رائحة الملابس والشعر ويفسد لون الأسنان، ويصيب الإنسان بسعال مزمن وبالسكتة القلبية والدماغية والسرطان، ويقلل كثيرًا من قدرة الإنسان على ممارسة التمارين الرياضة والاستمتاع بالأنشطة المختلفة؛ سيدرك حينها خطأ الاعتقاد أن الأمراض والأشياء السيئة تحدث فقط لكبار السن.

تنمية الثقة بالنفس المكتسبة من المحيط الأسري والبيئة تزيد من إحساس المراهق بقيمته وسط من حوله؛ فتنعكس هذه الثقة على كل حركة من حركاته وسكناته، وحينها يتصرف بشكل طبيعي دون قلق أو تسرع أو رهبة، وسيكون هو من يحكم تصرفاته وليس غيره لأنها نابعة من ذاته لا شأن لها بالأشخاص المحيطين به، والعكس من ذلك هو انعدام الثقة بالنفس التي تجعل الشخص يتصرف وكأنه مراقب، فتصدر حركاته وتصرفاته في كثير من الأحيان مخالفة لطبيعته، ويصبح القلق حليفه الأول في اتخاذ القرارات.

وللثقة بالنفس أثرها الإيجابي على الصحة النفسية والجسدية، والابتسامة في وجه المراهق تشعره بكثير من الارتياح وتنتقل إليه الطاقة الإيجابية ، وإذا كان معيار اكتساب قوة الثقة بالنفس ليس فقط في فرحة التوفيق في القيام ببعض الأعمال متوسطة الصعوبة أو الزهو بتحقيق أهداف محددة أو التفاخر بعد إنجاز بعض الطموحات الهامة، فإنه أيضا يكمن في كيفية التعامل مع الإخفاقات وعدم الانهيار أمام حالات الفشل.

وليس المعيار أيضا الاستسلام لعبارات الشكر والمدح بغير سبب، والإطراء على الأداء بدون تقييم موضوعي، لأنه أساس خاطئ لن يزيد من الثقة بالنفس ولن يطور المهارات بقدر ما يثير الشكوك لدى المراهق بأن ثمة من يركزون على ضعفه ويراقبون كل حركة غير طبيعية يقوم بها، مما يزيد إحراجه من مواجهة اللوم وقلقه من ارتكاب الخطأ، وخوفه من نظرات الاحتقار، وإحساسه بأنه إنسان ضعيف لا يمكن أن يقدم شيئا يميزه، وغالبا ما يكون أصحاب هذا التفكير الهدام كل من يرى نفسه حقيرًا ويسرف في الاستسلام لهذا التفكير حتى يستحكم في مخيلته، ويصبح أخطر مشكلة تدمر شخصيته وتدمر كل طاقة إبداع لديه.

وعموما يحتاج كل مراهق إلى شخص يثق فيه، يصغي إليه وهو يحدثه بدون حرج عن مكنوناته وأفكاره، هذا الشخص سيبدو هو المؤهل ليكون محل ثقته، وسيمكن من خلاله تمرير ما يسهم في تقويم سلوك الفتى ويهذب أفكاره ويرشده ويعالج بحكمة تراكمات يومه، ويزيل عنه بهدوء ترسبات تصرفات خاطئة وآثار مواقف مسيئة لشخصه، كتعمد إحراجه وتوبيخه أمام الآخرين، أو المقارنة بينه بين أقرانه المتفوقين، وفي هذا سيكون من المهم إعطاء الفتى دائما الفرصة لإثبات ذاته وإقناعه بضرورة مصارحة نفسه أولا بحقيقة مقومات شخصيته مهما كانت طبيعتها، والتأكيد عليه بعدم غض الطرف أو تجاهل المشكلة بإيهام النفس عن طريق الخطأ أنها لا تعاني من أي مشكلة لأن التهرب لا يحل المشاكل، بل يزيدها تعقيدًا.

                             صبحة بغورة                                                                              متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

 

اقرأ أيضًا.. صبحة بغورة تكتب: المتابعة النفسية لأطفالنا ضرورة أم تـرف؟