صبحة بغورة تكتب: الفتور في العلاقات الإنسانية بين برودة المشاعر وتأزم العواطف

كلما توسعت نشاطات مجتمعاتنا وتعددت نشاطاتنا وتنوعت أعمالنا، كلما تفتحت أمام أفرادها الآفاق وسبل الكسب وتجددت الآمال في النفوس ببلوغ مستوى حياة مادية أفضل وعيش أسهل.

ولكن غالبًا ما تصطدم الرغبة الجامحة لتحقيق هذه الآمال بطموح آخرين يلهثون وراء نفس الهدف ويتدافعون نحو ذات المقصد، إنه السباق نحو الغاية الكبرى في العيش الكريم الذي عادة لا يخلو من التنافس المحموم المورث للأزمات النفسية المزمنة والأمراض العضوية المهلكة، ولا شك أن انعكاس كل هذا سيصيب علاقات الأفراد سواء على المستوى الأسري والعائلي والمهني والاجتماعي بصفة عامة بفتور كبير.

غالبا ما ينتهي يوم عمل الفرد بإجهاد عضلي شديد وإرهاق نفسي ومعنوي عميق، وهذه الحالة ليست ظرفية ولا طارئة وإنما ملازمة طوال أيام العمل، ومع توالي الشهور تطرأ على الإنسان أحاسيس بعيدة عن رغبته التي كبرت في دخيلة نفسه أول الأمر وهي بلوغ النجاح في العمل وتحقيق حلم الترقية، أو الحصول على الربح الوفير في التجارة وتجسيد حلم التوسع..

قد تختلط على الفرد أحاسيس متعددة، مختلفة الأبعاد لا يعرف معها بداية معينة ولا يدرك نهاية محددة لها، كل ما سيعرفه أن نظرة المحيطين إليه حائرة كمن تبحث عن تفسير في عينيه، تراها متوجسة من عواقب فقدان حرارة الحديث وفرحة اللقاء، وأسوأ ما سيكون عليه الحال أن يتسع أثر ذلك لينعكس سلبا على طبيعة العلاقات الخاصة في الحياة الزوجية فيصيبها بالفتور القاتل المدمر لأواصر الحميمية والمودة والرحمة.

قد يعود سبب الفتور في العلاقات الإنسانية بصفة عامة إلى تفشي الظلم السياسي أو الغبن الاجتماعي، كما قد يرجع إلى خسائر مالية وتجارية ترتبت على دسائس وعلى مؤامرات الخصوم، وكلها أسباب مباشرة لسرقة المتعة من العيون والبهجة من النفوس وإلحاق الأذى والجفاف بجذور العلاقات مهما اختلفت مجالات العمل، وتباينت مستويات المعيشة، فليس للمؤهلات العلمية والمستوى الوظيفي للفرد أمر عليه ولا نهي في تقويم سلوكه وتهذيب تصرفاته، لأن الأمر تربوي متعلق بطبيعة النشأة الأولى.

والفتور في العلاقات الإنسانية، هو نذير غير مطمئن لواقع علاقات غير نافعة، كما أنه مؤشر غير مريح على بداية مستقبل غير مثمر، لأنه يحرم أفراد الأسرة والمجتمع فرحة التواصل ونعمة التعاون والتكافل والتآزر في كل الظروف، فالفتور شعار ظاهر شائع في الكثير من المجتمعات يجهر بعدم التردد في الإساءة ويعلن الاستعداد لإلحاق الأذى، ويخفي ما هو أقسى على القلب وما هو أشد إيلاما على النفس.

يصيب الفتور في العلاقات أوتار المشاعر لدى الفرد ببرودة ضارة لطبيعته الاجتماعية، فيتجمد فيه الاستعداد للتجاوب و إبداء رد الفعل وحتى لمحاولة التكيف مع تغيرات الأوضاع حوله.

وبرودة المشاعر، هي نتيجة فتور سابق عليها وستكون متناسبة معه، بمعنى أنه كلما طال الفتور تعمقت المشاعر السلبية ببرودة ضارة بفضائل التواصل تكاد تلامس حدود رفض الآخر.

ويبقى أحد أهم أسباب الفتور، هو تأزم العواطف، أي عجز الفرد في التعبير عن حقيقة مكنوناته وافتقاده لشجاعة البوح بسبب التنشئة الخاطئة التي لا تجيز الحديث مع الجنس الآخر وتحرم النظر إلى النساء ولو في إطار مدرسي أو جامعي أو مهني؛ إذ سيكون حينها التردد في الموقف والتعلثم في الكلام الحديث والخجل في الحديث والفرط في الحياء عند إبداء الرأي أو الميل للانطواء وحب العزلة والانزواء هي أبرز سمات الشخصية المهتزة بسبب التأزم النفسي الداخلي الذي يضع الفرد على هامش الحياة الاجتماعية الناضجة، ثم يضع هو نفسه خارج حسابات معادلة العلاقات الاجتماعية السوية.

قد بهمك: صبحة بغورة تكتب: إرادة الإنسان بين الواقع والأحلام

إن كل ما يتعلق بحقيقة الطبيعة البشرية وبحجم تفاعلها مع البيئة والمحيط أساسه قوة حضور شخصية الفرد المستمدة من ثقته في قدراته الجسدية والعقلية والنفسية والعصبية واعتداده بنفسه وسعيه الدؤوب نحو المزيد من العلم والثقافة والمعرفة وهو ما يفتح أمامه الآفاق الواسعة لإقامة شبكة علاقات إنسانية يشعر فيها الفرد بقيمته الاجتماعية وأهميته في خضم ما تفرضه عليه هذه العلاقات من واجبات وما تمنحه في المقابل من حقوق، وهذا ما يكسب العلاقات الإنسانية الدفء والحميمية.

وأي اختلال في تشكيل شخصية الفرد بعيدًا عن المبادئ التربوية السليمة ومعايير التنشئة الصحيحة والقيم الإنسانية النبيلة ستكون النتيجة للأسف وخيمة على الفرد وعلى المجتمع؛ إذ لن يجد الفرد لنفسه موقعا في وطنه ولا دورًا فاعلا في الحياة، ولن تجده أسرته معينا لها، ولن يجده مجتمعه عضوًا نافعًا.

الحقيقة العلمية تؤكد أن العقل الباطن للإنسان لا يعقل الأشياء مثل العقل الواعي، لأنه يخزن فقط المعلومات ويقوم بتكرارها أو استحضارها فيما بعد، وطبيعي إذن أن تترسخ المفاهيم الخاطئة والتصورات السيئة والمعلومات المغلوطة والرسائل السلبية، وتستقر في مستوى عميق في العقل الباطن إذا ما جرى ترديدها مرارًا، وعليها تتشكل البرمجة السلبية بعدم الاستطاعة مثلا والخجل والمزاج العصبي.

أيضًا، من الحقائق العلمية الأخرى، أن للعقل تصرفات غريبة لابد من الانتباه لها، فلو طلبنا مثلا من أحدهم عدم التفكير في حصان أبيض، فهل يمكن فعلا أن يقوم بذلك، ويمنع عقله من التفكير في شكل الحصان الأبيض، بالطبع لا فهو غالبا قام بالتفكير في شكل الحصان لأن عقله قام بإلغاء كلمة "لا" واحتفظ بباقي العبارة.

يؤكد خبراء برمجة الذات، أن قواعد برمجة العقل الباطن تبدأ من أن تكون الرسالة واضحة ومحددة وإيجابية وأن تدل على الوقت الحاضر، وان يصاحبها إحساس قوي بمضمونها حتى يقبلها العقل الباطن ويبرمجها.

ومن الضروري تكرار الرسالة عدة مرات على النفس إلى أن تتبرمج تماما، ثم ترديدها بصوت مسموع مع عدم الاستسلام لأي توتر داخلي، ولابد أن يحذر الفرد فيما بعد من ما يقوله لنفسه وللآخرين، وبنفس القدر يحذر من ما يقوله له الآخرون بأن يلغي أي رسالة سلبية واستبدالها برسالة إيجابية يملؤها الإحساس بالقوة والقدرة الذاتية على الاستطاعة بعمل ما يريد بمجرد أن يحدد ماذا يريد بالضبط وأن يتحرك فعلا في نفس الاتجاه.

وعلى الفرد أن يثق فيما يقول، وأن يتأكد أنه سيد في عقله وعلى عقله، وأنه يتحكم في حياته ويستطيع تحويلها إلى تجربة من النجاح والسعادة ، وأن بإرادته أن يعيش أسير الأحلام أو إنسانا فاعلا في الواقع.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

 

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: اللباقة.. قيمة سلوكية أم ضرورة اجتماعية؟