صبحة بغورة تكتب: الطلاق.. إفلاس بنك الحب بين الزوجين (1 ـ 2)

عابت المجتمعات الغربية على المسلمين قرونًا طويلة أمر الطلاق وأفرطوا بسببه في التشهير بالإسلام واعتبروا أن إباحة الطلاق تتعارض مع حقوق المرأة، وذلك إلى أن بدأت هذه المجتمعات حديثًا تراجع نفسها وتبيح ما حرمته فتطرفت كعادتها في فتح الأبواب على مصراعيها لهجر النساء وتطليقهن بطريقة وبائية إما بمباركة وقبول الكنيسة، وإما بموافقة قانونية من خارج سلطان الكنيسة وكانت الأرقام مدهشة والحقائق أشبه بالخيال.

الطلاق مهما كانت دواعيه حدث سيء وموضوعه ذو شجون، ولتوسيع دائرة الحديث أملا في تعظيم الفائدة نتناوله من عدة زوايا.

الطلاق بين الإباحة الشرعية وظلم المجتمع

كثرت الأحاديث وتعددت الشكاوي من أن الطلاق يخرب البيوت ويشرد الأطفال دون ملاحظة أن الطلاق قد يكون في الكثير من الحالات رحمة للأسرة، وأن حدوث الطلاق بنسب عالية وممارسات خاطئة لا يبرر الطعن في شرعية الطلاق لأنه أمر يمكن أن يكون في حد ذاته فيه مصلحة الأسرة عند استحالة استمرار الحياة الزوجية، أما أن يصبح الطلاق ألعوبة على ألسنة بعض الرجال أو لمجرد التسلية أو تنفيس الغضب، فهو مشكلة من يستخدم هذا الحق بطريقة غير مشروعة.

لقد أدركت المجتمعات الغربية أن الطلاق حل لمشكلة النفور والبغضاء بين الزوجين بعدما ابتلاهم الله تعالى ببلاء شديد في علاقاتهم الزوجية حتى وصل بهم الحال إلى التمرد على سلطة الكنيسة التي كانوا باسمها يشهرون بالإسلام ويسيئون للمسلمين؛ فوضعوا لأنفسهم قوانين مدنية تسمح بافتراق الزوجين متى رغب أحدهما في ذلك فكانت هذه "العلمنة" في الغرب اعترافًا بالحكمة الكبرى لتشريع الطلاق في الإسلام.

وتبين الاحصائيات كيف أن المجتمعات الغربية تساهلت كثيرًا في عملية الطلاق بعد أن أصبح مشروعًا، ففي فرنسا ثلث حالات الزواج بين الفرنسيين تنتهي بالطلاق، وأن واحدًا من كل أمريكيين اثنين طلق زوجته وتبلغ نسب الطلاق في بعض الدول الأوروبية 70 بالمائة.

الطلاق في الإسلام، فيه تشريع حكيم وحكمة بالغة وله أحكام وشروط وآداب، وهو ليس مجالًا للعبث، ويخطئ من يتهمه بأنه وراء الكوارث الاجتماعية، وفي السيرة النبوية الشريفة ما يدعونا إلى ترشيد استعمال الطلاق والتقيد بالأحكام الشرعية، لئلا يبنى إيقاعه بتعسف ودون فهم ما يقع فيه الناس من الأخطاء والشرور بعدما أصبحت كلمة الطلاق سهلة على السنة كثير من الرجال؛ حيث أصبح بعض الأزواج الجهلة يوقع الطلاق عند حدوث أي خلاف أو عندما يريد فرض رأيه وإرغام زوجته على فعل ما يريده.

إن صنفا من الأزواج أساؤوا كثيرا استعمال حق الطلاق الذي جعله الله تعالى بيد الزوج عند وجود سبب لذلك لا تبعًا للهوى والجهل والانفعال الذي أدى لسوء استخدام هذا الحق الشرعي من قبل بعض الرجال، الذين تعمدوا قطع الميثاق الغليظ لمجرد هفوة بسيطة، بينما جعله آخرون وسيلة تهديد وإرهاب وابتزاز خلافًا لحكمة الشرع الحنيف الذي جعله حلًا وعلاجًا لمعضلة الخلاف بين الزوجين بعد التأكد من استحالة استمرار العشرة الزوجية بينهما.

الاعتقاد هنا أن وقوع الطلاق لأسباب تافهة دليل على ضعف المحبة بين الزوجين، ويبدو أن كثيرا من البيوت أصبح أهون من بيوت العنكبوت يتمزق ويتقطع عند أخف نسمة هواء.

ويمكننا أن نشبه العلاقة الزوجية ببنك الحب؛ إذ تمثل المودة الرحمة إيداعات نتائجها أرباح من السلوكيات الإيجابية، وخلاف ذلك من السلبيات هي سحوبات وجملتها خسائر.. البنك المليء بالحب والحنان والمودة لا يمكن أن يخسر لمجرد موقف تافه يعترض الحياة الزوجية، والموقف البسيط الذي يؤدي إلى الطلاق إنما يدل على أن الرصيد في بنك الحب كان على مستوى الإفلاس.

تأثير الإعلام على الإثارة بين الأزواج تتضاعف في عصرنا الحديث حالات الفتور العاطفي والملل الزوجي بسبب رتابة الحياة اليومية وتكرار نفس السيناريو كل يوم دون تجديد، وهو ما أدى إلى الصمت أو الخرس الزوجي المؤدي إلى الطلاق النفسي ثم الانفصال الجسدي الذي يشكل الفجوة الكبرى.

ويبدو أن أهم أسباب حدوث ذلك العزوف بين الزوجين يعود إلى وسائل الاتصالات الحديثة كالقنوات الفضائية الإباحية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي خلقت عوالم موازية للإثارة العاطفية والتهيج النفسي استبدلها البعض بالإثارة المفتقدة في حياته الزوجية؛ فعمقت وسائل الإعلام الفجوة بين الأزواج بسبب استهلاكها أوقات طويلة.

المفارقة الغريبة، أن يجاهر الكثير من الأزواج بأنه لا جدوى من هذه الحياة التي قتلتها العادة والملل والمشاكل المالية، وأنهم وجدوا في الإعلام طريق للهروب نحو عالم فسيح وحافل بكل أنواع الإثارة النفسية والجسدية والفكرية والعقلية، يقدم بديلًا جاهزًا للإثارة المفتقدة في الحياة الزوجية.

لقد حفلت الأخبار بالخلافات الطريفة التي أدت إلى الطلاق، وعلى سبيل المثال قصة رجل متزوج منذ خمس سنوات ولديه ثلاث أطفال، طلق زوجته بسبب سهرها المبالغ فيه أمام شاشة التلفزيون حتى قرب الفجر ونومها طول النهار بشكل دائم ومستمر ونسيت واجباتها المنزلية وحتى حق زوجها الشرعي، بل وخصصت لنفسها غرفة مستقلة لمشاهدة البرامج التلفزيونية بدون أن يزعجها أحد تاركة الزوج ينام في غرفة الزوجية وحيدًا ، ومبرراتها أن التلفزيون كان ملاذًا ومهربًا من الاكتئاب والملل والفراغ الكبير الذي أصبحت تعيشه بعد انشغال زوجها عنها في العمل.

المتأمل في الحالة السابقة وغيرها من الحالات المشابهة لها؛ يلاحظ أن ثمة فجوة نفسية كبيرة بين الزوجين، وبما أن الإشباع العاطفي أمر لا يستطيع أحد تحقيقه إلا الزوج، فإن فتوره سيصيب العلاقة الزوجية بالجفاف العاطفي ، ومن ثمة تتدهور العلاقة لتصل إلى "الطلاق العاطفي"، كما يلاحظ وجود أزمة كبيرة في التواصل بين الزوجين التي تعرف بظاهرة "الصمت الزوجي"؛ حيث يحتفظ كل طرف منهما بمشاعره في ذاته، مما يسبب قدرًا من المعاناة العاطفية وعدم القدرة على التعبير عن العواطف، فيقعان في فخ قتل الحوار الإيجابي فيما بينهما.

مسؤولية الطلاق بين الإرادة والوعي

الزواج شراكة في ظاهرها بين رجل وامرأة قررا بموجب إرادتهما الحرة ودون أي تأثير من أطراف أخرى الدخول في هذه الشراكة، ويبدو الأمر أكثر تعلقًا بالمرأة بصورة خاصة التي تتعرض في كثير من المجتمعات إلى القهر وإجبارها على القبول بزوج غير مقنع لها في شكل صفقة بيع تجارية للعروس.

وتحمل المجتمعات الذكورية ذات الثقافة الرجولية مسؤولية فشل أي علاقة زواج على الزوجة، على اعتبار أن ضرر الطلاق اقتصاديًا خاصة في الماضي يقع على المرأة غير المتعلمة كونها فقدت عائلها، واجتماعيًا أصبحت منبوذة لأنها "مطلقة"، بمعنى أنها تظل متهمة في نفسها في أي خطوة تخطوها خارج البيت.، والوعي بخطورة هذا الأمر تدفع بقوة إلى محاولة تغيير عقليات المجتمع الرجولي التي تحمل المرأة وحدها المسؤولية، وذلك من خلال تشجيع البحث في أسباب نجاح الزوج، وفي أسباب فشله في تحمل مسؤوليته الأسرية.

وتحدد الكثير من البحوث ملامح الزوج الناجح في مدى استشعاره بربانية العلاقة بين الزوجين، وبما في الزواج من مسؤولية، وبمدى قدرته على بث مشاعر الأمان الحقيقية لدى زوجته حتى تشعر أنها بحق حبيبته، وأن يكون مصدر قوته ومنبع شجاعته في بيته هو صدقه، وأن يدفعه تحمله مسؤولية الزواج إلى النجاح في حياته العملية، وأن يستشعر دومًا المسؤولية الأخلاقية نحو الأسرة والمجتمع ويكون شريفًا، متواضعًا، متسامحًا يلتمس الأعذار، راقيًا في غضبه، وعطوفًا يصبر على أخطاء الآخرين، وأن يتميز بالثبات الانفعالي ويستطيع أن يكظم غيظه في أحرج الأوقات والمواقف، متوازن بين رومانسية رقيقة وواقعية مدركة، يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة، والعدل في العلاقة والشورى كمنهج حياة، وأن يعلم أنه القائد فيجمع بين الحزم والمرونة والرعاية والعدل.

وفي المقابل، تحدد ذات البحوث ملامح الزوج الفاشل بصيغة تنبيهية لتجنب فهم أن الزواج مجرد تجربة حياة يمكن أن تمر، فمثله فاشل أيضا في الحياة العملية والعلاقات الاجتماعية يفتقد روح المرح، ضعيف الهمة، قليل الحركة، متهاون في قيادته، جامد في آرائه، ظالم في رعايته، لا يرى إلا رأيه ويسخر غالبًا من رأي زوجته، له فهمه الخاص لأحكام الشريعة الذي يصب في مصلحته فقط، ويعكس تفشي حالات الطلاق لأتفه الأسباب وظاهرة المطلقات صغيرات السن رعونة وسوء تربية الشباب وتدليلهم، وبعض حالات الطلاق كانت نتيجة عدم انسجام أم الزوج مع الزوجة كأن العلاقة الزوجية تجارب وجس نبض بعيدًا عن الدين القويم والخلق الرفيع، في حين أن الطلاق هو أبغض الحلال عند الله، وعند الناس تدمير إنسانة مسلمة وجرح قلبها.

                                                                                                      صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية
 

اقرأ أيضًا.. صبحة بغورة تكتب: خصوصية المراهقـة عند الفتاة