صبحة بغورة تكتب: التربيـة المتسلطة.. مصدر اغتراب الأبناء!

غريب أمر الكثير من الأسر التي يعيش أفرادها تحت سقف منزل واحد عيشة الغرباء؛ حيث لا يكاد الأبناء يشعرون بأي انتماء أو ترابط وجداني فيما بينهم وتجاه والديهم.

وتزداد الفجوة مع الأيام رغم تواجدهم الدائم معا، وتبلغ الحالة أقصاها في سن المراهقة عندما يعلن الأبناء بشكل واضح التمرد على كل شيء والرغبة في التخلص من سيطرة الوالدين وإرادة التفرد بالشخصية المستقلة بعيدًا عن الأوامر وحتى عن أي التوجيهات.

هذا الوضع لا يحدث فجأة لأنه ليس بالأمر الطارئ، وهو ليس أمرًا حتميا، ولكن يمكن أن يكون طبيعيا عند مستوى معين لا يخل بالبنوة البارة ولا يعكس بالضرورة وجود حالة اعتراض تنبئ عن عقوق الأبناء.. إن هذه الحالة هي نتيجة مباشرة لمسار تربوي سيء ويمكن اعتبارها في بعض الأحوال رد فعل الأبناء تجاه الآباء الذين يتحكمون بشدة في حياة أطفالهم.

فهناك الآباء المسيطرون بالمبالغة في تقييد حركة الطفل وعدم السماح له باتخاذ قراراته بنفسه، إنما ينتهكون حريته ويتسببون في إصابته بمعاناة نفسية كبيرة ستبدو آثارها واضحة في مراحل لاحقة من عمره سيعاني فيها الفتى من ضرر نفسي بالغ، يساوي في قسوته الألم المعنوي الذي يشعر به بعد وفاة شخص من أحبائه المقربين.

والمبالغة في عدم تحفيز الطفل على التفكير المستقل في شؤونه تؤدي إلى إحداث ضرر لا يستهان به في صحته النفسية؛ حيث ستؤدي الضغوط النفسية على الطفل إلى عدم رضاه عن حياته في الكبر واعتلال صحته بينما عاش أترابه الذين هيأ لهم آباؤهم حياة مليئة بالدفء الأسير وقاموا بتوجيههم وتشجيعهم على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم حياة تتسم بالرضا وحالة نفسية مستقرة.

اقرأ أيضًا: اضطراب ثنائي القطب.. 7 محفزات تؤدي إلى الإصابة به

والأكيد أن الأثر النفسي لتسلط الوالدين من عدمه، يستمر مع الإنسان حتى مراحل متقدمة من عمره؛ حيث يبدأ الشقاق عندما يدب شعور الأبناء بالغربة والميل للانعزال الأقرب للرغبة في الانفصال المبكر عن الوالدين، وهذا الشعور هو دليل قوي على وجود قصور كبير في التربية منذ مرحلة الطفولة، خاصة إذا لجأ الآباء إلى استخدام العنف والتخويف وأساليب الترهيب المفزعة، معتقدين أنهم بذلك يتبعون الأسلوب الذي يضمن تقويم سلوك أبنائهم بينما في الحقيقة هم يخلقون فجوة كبيرة بينهم وبين أبنائهم يمكن أن تصل حد مشاعر كره حقيقية.

وأيضًا، استخدام أسلوب فرض السيطرة على الأبناء دون ترك أي مساحة لهم للتعبير عن رأيهم أو للنقاش بزعم أنهم أدرى منهم بشؤون الحياة وأعلم بمصلحتهم؛ يتسبب في ابتعاد الأبناء عن الآباء وربما يفعلون سرًا كل ما يريدون وهو ما سيسهم تدريجيا في تفكك الترابط الأسري وفي تدني درجة الاحترام المطلوب.

يعتقد البعض أسفا أن سوء معاملة الطفل لا تعني سوي إيذائه جسديا بالضرب، متناسين أن مفهوم سوء المعاملة يتعدى هذا بكثير، فهو يبدأ من مجرد الإيذاء العاطفي بعدم الاهتمام به وإهمال حاجته للشعور بالحب والرعاية وتجاهل تربيته وتعليمه، إلى الإيذاء اللفظي بتعمد إحراجه ووصفه دائما بصفات الغباء والفشل وشتمه وتخويفه وتهديده واللجوء إلى التفرقة في المعاملة وعدم توجيه عبارات الود والتشجيع على نجاحاته، ثم الإيذاء الجسدي كالضرب وإهمال حالته الصحية أو تغذيته بشكل سليم.

كل هذا يقف عائقا حقيقيًا وملموسًا ضد نمو الطفل الجسدي والنفسي الصحيح؛ حيث سيتعرض أكثر من أترابه الأسوياء إلى القلق المزمن والرهاب والفزع الليلي والتبول اللاإرادي والميل للعنف وتراجع مستواه الدراسي، وتحمله الإحساس السلبي بالنقص وعدم الثقة بالنفس الذي سيبقى محفورًا في ذاكرته، وفقدان مفهومه لذاته وتكوين شخصيته وصعوبة التعلم وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه.

لقد أدى التطور التكنولوجي بعد انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي إلى حدوث تباعد المسافة المكانية والزمانية بين أفراد الأسرة الواحدة؛ حيث بانشغالهم لساعات طويلة أمام عالم افتراضي آخر مختلف عن الحياة التي يعيشونها في المنزل مع والدين متسلطين صاروا قلما يتواصلون فيما بينهم بعدما وجدوا في الانترنت وسيلة للتواصل مع أصدقاء من جنسيات اخرى ويتبادلون معهم "بكل حرية"؛ فزادت مساحة التفكك الأسري وتعمق الشعور بالاغتراب وعدم الرغبة في التفاعل الأسري والميل إلى الانعزال، وبالتالي يتم عن طريق العالم الافتراضي القضاء على التقارب الأسري والدفء العائلي، فضلا عن تأثير الإدمان على متابعة الانترنت بشدة على الحالة النفسية للفرد الذي قد يصاب بالاكتئاب الحاد والشعور بالوحدة.

كل هذا نتيجة تربية غير سليمة جرت في البيئة الاجتماعية الأولى، التي من المفروض يتشرب منها الطفل ثقافته ويتزود فيها بطرق التعبير عن ذاته ويكتسب مهارة تواصله مع الآخرين، التي تمكنه من دخول عالمه مصقولا بمجموعة من المقومات الشخصية الأساسية، التي تعينه على مواجهة المواقف المختلفة وإيجاد الحلول لمشاكله بالاعتماد على نفسه.

وقد تكون ثمة أخطاء لا تبدو مقصودة من الآباء، شكلت أسبابا مباشرة لاندلاع التوتر بين الآباء والأبناء، مثل مطالبة الأطفال بالكمال خاصة أثناء إنجازهم للواجبات المدرسية قد تفوق قدرتهم العقلية، وينبع هذا الموقف من منطلق حرص الآباء على تفوق الطفل وسرعة نضجه.

وعلى سبيل المثال، الطفل لا ينال رضا والديه إلا بحصوله على نتائج متميزة في المدرسة، وقد يطالب الاَباء أبناءهم بالتزام قواعد الكبار في الجلوس وإلقاء التحية وطريقة الأكل، وينظر بعض الآباء إلى اللعب كسبب رئيسي في إهمال أبنائهم الدروس المدرسية وضعف قدرتهم على التركيز وعدم الرغبة في العمل الجاد والصبر والمثابرة، بل أن هناك من يعتبر اللعب عملا شيطانيا في وقت يجري التأكيد على أن اللعب وسيلة مهمة للتعلم.

وتكمن أهمية دور الأسرة الواعية، في تأصيل ثقافة الطفل ومساعدته على التعبير عن ذاته حتى لا يكون مصيره الخوف والانعزال، ولا تدعه يعاني الإرباك اللغوي والثقافي والاجتماعي الذي يبدأ عادة بالمقارنة والمحاكمة العقلية، ومن السبل التي تسهم في تحقيق هذا مشاركته في الألعاب الجماعية التعبيرية والتمثيلية لمساعدته في الاندماج الاجتماعي بشكل إيجابي، وتنمية الشجاعة الأدبية لديه عند المواجه، والحوار معه للسماع أكثر لآرائه حول السلوكيات التي يراها.

ويحق للآباء أن يزرعوا في أبنائهم القيم والمثل العليا، وحثهم على السير على دربهم باعتبارهم قدوة صالحة لهم، لكن غالبا ما يرتكبون خطأ الوقوع في فخ أن يكون الأبناء نسخة طبق الأصل من آبائهم دون مراعاة سنة اختلاف الأجيال والزمان، وتفهم أن لكل جيل متطلباته واحتياجاته المختلفة تماما عن احتياجات الجيل الذي سبقه، والأهم ضرورة تقدير دقة مرحلة المراهقة وحساسيتها، والتي عليها تجري محاولة احتواء الأبناء بلطف بعيدًا عن الانفعالية الزائدة حتى لا ينفر الأبناء من آبائهم وينعزلوا عنهم، وعدم المبالغة في مظاهر القلق، وتعمد تبسيط المشاكل الاجتماعية والمالية أمام الأبناء، وعدم حرمان الطفل من الحب والإشباع العاطفي حتى لا ينشأ متمردًا ويدمر نفسيته بنفسه.

صبحة بغورة متخصصة في كتابة المقالات السياسية والقضايا التربوية

اقرأ أيضًا: صبحة بغورة تكتب: المرأة والإنجاب.. حكايات لا تنتهي