دكتورة رانيا يحيى تكتب: الموسيقى الصوفية بروح رمضانية

تهل علينا نسمات الشهر الكريم ونحن في حالة روحانية واستعداد للطاعات والعبادات، وللموسيقى الصوفية شق روحاني؛ حيث تعتمد على النغمات المجردة فتؤثر في أحاسيس البشر بأي مكان وزمان وتبعًا لكل الظروف؛ لنرتقي من عالم الجسد إلى عالم الروح.. من عالم الموجودات إلى عالم الغيبيات في رحاب المصطفى "صلى الله عليه وسلم".

الموسيقى الصوفية

وهناك صلة وطيدة بين الفن، وفي مقدمته الموسيقى، وبين الدين، فكليهما يبحث عن الفضائل والارتقاء بالنفس البشرية والجمال بمفهومه الواسع الشامل، فالفن قبس عاطفي يسمو بالوجدان، والدين قبس سماوي جاء من عند الخالق ليحلق بالإيمان وصفاء الذات، وبالتالي فكل منهما قوامه الأخلاق والفضائل، وحينما نذكر الموسيقى الصوفية تسترجع الذاكرة الحضرات الدينية ومجالس الذكر والموسيقى المرتبطة بها عن طريق آلات النقر الإيقاعية، وعلى رأسها الدفوف، والإلقاء المنغم للأدعية والتسابيح.

كلمة "صوفية" تعني الإحسان باعتباره آخر الأركان الرئيسية للدين بعد الإسلام، والإيمان، وأصل التصوف الزهد في الدنيا، وزيادة الإقبال على العبادات واجتناب المنهيات ومجاهدة النفس وكثرة الذكر المستمد من تعاليم الإسلام وسنة النبي الكريم. وطريق التصوف يسلكه المؤمن للوصول إلى الله سبحانه وتعالى بمعرفته والعلم به؛ بالاجتهاد في العبادات والتحلي بالأخلاق الحميدة واتباع ما تأمرنا به آيات القرآن المباركة والسنة النبوية الشريفة.

وفى القرن الثالث الهجري، أخذ المذهب الصوفي في الانتشار بما يحويه من مبادئ الزهد وشدة العبادة، وتطورت هذه النزعات حتى صارت تعرف باسم "الطرق الصوفية"، ومن أبرز العلماء المسلمين الذين اتبعوها: شمس التبريزي؛ جلال الدين الرومي، والغزالي.

[caption id="attachment_59790" align="alignnone" width="1184"]الموسيقى الصوفية د. رانيا يحيى[/caption]

واستخدم شيوخ الصوفية الموسيقى في عباداتهم وأذكارهم؛ للدلالة على أسلوب الإنشاد الديني في مجالس العلم والتعبد لديهم، ويتضمن: الدعاء والابتهال وترديد الأذكار المصحوبة بذكر الله ورسوله، وكذلك انتهاج فكرة الرقص الصوفي ويكون بـ "الدوران حول النفس" الذي هو أحد الأشكال المميزة للإنشاد الصوفي بأنواعه، باعتبار الدوران أمرًا فطريًا في حركة الكون حولنا مثل الشمس والقمر، كذلك التشبه بالطواف حول الكعبة في حالة تجريدية رمزية تروي قصة الكون.

أما عن موضوعات السماع أو الغناء الصوفي، فكانت دائمًا ما تدور حول العشق الإلهي متجردة من كل الماديات، وهي تحمل عبارات الحب والغزل والهيام والحنين إلى رؤية الذات الإلهية.

وغالبًا ما تبدأ أغنيات الطرق الصوفية ببعض الارتجالات ثم يدخل إيقاع بطيء مثل "المصمودي الكبير" والمعروف بإيقاع (الواحدة الكبيرة) وذلك لتجهيز المنشدين والمتلقين للحالة الصوفية المتعبدة وتستمر من عشر إلى ثلاثين دقيقة حسب الرغبة والاستعداد، وبعدها يتحول الإيقاع لـ "المقسوم" الذي يستمر نفس المدة الزمنية تقريبًا للإيقاع السابق، ثم يتجه الإيقاع إلى نوع آخر وهو الملفوف.

ومن خلال هذه الإيقاعات المتنوعة في سياق الدعاء أو الابتهال الصوفي؛ يتم وصف حالة السالك إلى الله والذي يدخل في مرحلة التخلص من الصفات الإنسانية وصولًا لحالة التصوف والعشق الإلهي بـ "التخلي، التحلي، التجلي" بغية معرفة الله على ثلاث مراحل؛ أولاها: علم اليقين، وهو ما جاء إلينا من غيبيات عن طريق خاتم الأنبياء والمرسلين من علم يُعد بالنسبة لنا "علم يقين" لكننا لم نره قط مثل ثواب الآخرة بالجنة والنار، ثم نأتي للمرحلة الثانية وهي: عين اليقين؛ وتعني وصول هذه الغيبيات إلى حيز الواقع حينما نراها فتصبح "عين يقين" بالنسبة لنا، أما كل من يقع عليه ثواب أو عقاب وينفذ أمر الله تعالى بالإثابة أو العقاب في الجنة أو النار فيكون وصل للمرحلة الثالثة والأخيرة "حق اليقين".

وتمر حلقات الذكر الخاصة بالمتصوفين بمراحل ثلاث أيضًا، تبدأ بالمعراج الروحي؛ أي الانطلاق بالروح وليس الجسد على الأرض، ثم المرحلة الواقعة فيما بين السماء والأرض في حالة من التعبد والارتقاء بالروح، حتى تصل للمرحلة الثالثة وهي السماء ووصول الروح إلى غايتها.. ومن أنواع الموسيقى الصوفية وأشهرها: السماع الصوفي؛ ويعني "الأنشودة الجماعية" أو ما يُطلق عليها "أداء الجهر"؛ حيث يتبع أبناء الطريقة إنشاد بعض الأبيات ويطلق عليها "الطريقة الرفاعية"، وهناك طريقة أخرى تسمى "أداء السر"؛ وهي أن يقوم الفرد بذكر ورد شخصي قائم على التسبيح وذكر كلمات مثل: هو حي، قيوم وغيرها من أسماء الله الحسنى.

وكان السماع في البدايات مصحوبًا بعزف الناي وإيقاع الطبول والدفوف فقط، ثم تطور في القرن التاسع عشر لتضاف مجموعة أخرى من الآلات الجديدة، كالقانون والكمان والدهلة والربابة وغيرها.

الموسيقى الصوفية

وتُنسب الألحان الأولى للسماع الصوفي إلى السلطان بهاء الدين محمد بن جلال الدين الرومي، ويختلف السماع المولوي الذي يؤديه الرجال فقط بملابسهم البيضاء والطربوش الأحمر المزين لرؤوسهم في حلقة دائرية عن السماع لدى الطائفة العلوية؛ حيث تشاركهم النساء وهن يرتدين ملابس شعبية بالألوان المزركشة.

والنوع الثاني الشهير: موسيقى القوالي الصوفية المأخوذة من فن القول؛ إذ يتخيل المنشد بعض الأقوال داخل الأنشودة، ولهم أشكال موسيقية خاصة بهم، وهى نوع من الموسيقى التعبدية الخاصة بالمتصوفة ونشأت منذ سبعمائة عام تقريبًا عندما جاء بعض العلماء والأولياء المسلمين إلى شبه القارة الهندية، ويتم أداء هذه الموسيقى في غناء جماعي بمصاحبة آلة الأرغن وبعض الآلات الإيقاعية، ويتم مرافقة الإيقاع بالتصفيق أثناء الغناء، وأشعارهم الغنائية تعمل على تمجيد الأنبياء والصالحين، وموسيقى القوالي تخاطب مشاعر الحاضرين؛ لذا فلها مميزات دينية وأخرى دنيوية تحت شعارهم الأسمى وهو الحب، وذلك داخل حلقة دائرية مع ترديد الكلمات المقدسة وأبيات من الشعر الصوفي، ورغم أنها بدأت في دور العبادة إلا أنها تُقدم حاليًا في قاعات الحفلات الموسيقية كأي فرقة موسيقية.

ومما يندرج تحت الموسيقى الصوفية نجد "المولوية"، لكننا سنتحدث عنها بالتفصيل في المرة القادمة.. وختامًا فها هي الموسيقى الصوفية التي ترقى بالنفس وصولًا إلى جمال الروح وعشق الذات الإلهية، ونحن في هذا الشهر الكريم كم نحتاج إلى ليالٍ رمضانية نستمتع فيها بمثل هذه الأذكار والابتهالات الدينية الصوفية داخل إطار مفاهيم إيمانية خالصة، كالحب والتسامح والسلام مع النفس والغير.

دكتورة رانيا يحيى عضو المجلس القومي للمرأة رئيس قسم فلسفة الفن بأكاديمية الفنون

اقرأ أيضًا: د. رانيا يحيى تكتب: ماريا كالاس.. أسطورة الأوبرا