دكتورة رانيا يحيى تكتب: "أحلف بسماها" و"أم البطل".. كيف ساهمت الأغنية في الصمود والنصر؟

عانى الوطن العربي ويلات الحروب والتشرذم منذ دخول الكيان الصهيوني، كالجرثومة الحاملة للمرض الخبيث؛ لينهش في جسد هذه الأمة، ولعبت الأغنية دورًا في مسايرة هذه الأحداث، واستطاعت أن تعبر عن الآلام التي سبّبها الاعتداء على أرضنا المغتصبة، وما بذله جيشنا والجيوش العربية من أجل التحرير.

وعبّرت الأغنية عن الصمود والكرامة والعزة أثناء العدوان الثلاثي، وما تلاه، في أحلك مراحل الصراع إبان هزيمة 1967م التي لحقت بالعرب، ولكن الكلمات كانت تستبشر النصر، وتساعد على إشعال حمية الجنود، فلعبت بذلك دورًا قويًا في الدفاع عن الوطن جنبًا إلى جنب مع أسلحة الجنود، وحتى مع ظهور بعض الألحان الحزينة التي تعكس الانكسار، نجد أنها تخفي شحنات نفسية تدفع للصمود والنصر الذي تحقق فيما بعد، فكانت صانعة للبطولات والملاحم برسم الصور الدرامية التي عايشناها؛ حتى جاءت لحظة الحسم يوم النصر العظيم في أكتوبر 1973م.

ونجد صوب أعيننا أغنية "عدى النهار"، كواحدة من أجمل الأغنيات الوطنية التي تبرز مدى إيمان القائمين عليها بالنصر على العدو وعدم الاستسلام للهزيمة التي لحقت بالعرب بعد حرب 67، والكلمات التي عبّر بها عبد الرحمن الأبنودي؛ كانت تُواري مشاعر العطاء للوطن بفيض غزير وكأننا في حلم بيوم النصر؛ حيث بدأ بانكسار واقعي ثم انطلاقة بهذا الحلم العربي الشامخ، وعاد بنا "الأبنودي"؛ مرة أخرى لهذا الواقع المرير حتى نتذكره ليظل الحلم هو الهدف حتى تحقيقه.

وجاءت أغنية "المسيح" التي أبدع في توزيعها الفنان الراحل علي إسماعيل؛ حيث يشعر المستمع وكأنه أمام عمل أوركسترالي ضخم؛ إذ تمتزج هذه الكتابة الأوركسترالية الاحترافية بالألحان العبقرية لبليغ حمدي؛ لتخرج لنا لونًا بديعًا ومميزًا، خاصة مع ما تحمله معاني الكلمات المؤثرة التي كتبها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي؛ والتي شبّه فيها الأحداث السياسية والمشاعر الوطنية المؤلمة لأبناء دولة فلسطين الشقيقة بآلام السيد المسيح عليه السلام، فكانت مرادفاته تزيد من هذا الإيحاء والإيهام بالعذاب وتجسد الألم والمعاناة.

وخرجت أغنية "أحلف بسماها" كصيحة تغنى بها العندليب في جميع حفلاته حتى تحقق النصر، وكانت خير مُعبّر عن رجولة ووطنية تكتنف هذا القَسم المجازي في تعبير "أحلف بسماها وبترابها"؛ للدلالة على الإصرار مهما نتكبد من أجل قيمة وطننا، وكذلك تحفيز الهمم وجمع شمل الوطن العربي، وهي التي برع الأبنودي في إيجازها بتعبير (ما تغيب الشمس العربية طول مانا عايش فوق الدنيا) بقمة الإبداع وقمة المسؤولية؛ لعودة الحلم العربي الذي تفجر داخلنا، وإلى الآن تحمل كلماتها أمل الوحدة العربية في استشراقة مبكرة من الشاعر المبدع عما يجول في أذهان أبناء الأمة، أما أغنية "ابنك يقولك يا بطل"، فقد أكدت قدوم النصر في فلسفة "الأبنودي" الشعرية لرفض العدو المغتصب، كما انطلقت كلماته المعبرة عن حبه الصادق لتراب أرض الفيروز سيناء بأغنية "صباح الخير يا سينا" في حالة من التفاؤل والأمل.

وفي الحقيقة، كان للفن دور محوري في تعضيد مشاعر الصمود والكفاح واستعادة أرضنا وعرضنا؛ حيث لعب بعض الموسيقيين دورًا قوميًا حتى تحقق النصر، وفى مقدمتهم بليغ حمدي؛ والذي مكث في الاستوديوهات لأيام وأيام لتلحين أغاني النصر؛ إيمانًا منه بهذا الدور الوطني؛ فخرجت "بسم الله.. الله أكبر" باعتبارها صرخة وانتفاضة بغناء الكورال؛ للتعبير عن قوة الجيش المصري العظيم ببسالته وصموده، وكانت مؤكدة للروح التي أفصحت عن الوحدة الوطنية بخروج الجيش يوم العاشر من رمضان بمسلميه ومسيحييه في اتحاد وقوة لنصرة بلدنا.

ومن الأغنيات الجميلة، أيضًا، "على الربابة" كلمات عبد الرحيم منصور؛ وأبدعت فيها وردة الجزائرية؛ حيث كونا ثنائيًا من روائع الغناء العربي، وهي أول أغنية تعبر عن لحظة الانتصار، كما لحن للعندليب من كلمات محمد حمزة؛ "عاش اللي قال"، "عبرنا الهزيمة" وغيرها.

وأيضًا، من الأغنيات الرائعة التي عبّرت عن فرحة النصر، أغنية "لفي البلاد يا صبية" للملحن المبدع محمد الموجي، وكلمات محسن الخياط في مقام البياتي، ورغم أنه يتسم بالشرقية والحزن، إلا أن عبقرية الملحن جعلته يستخدمه ليعكس روح الانتصار.

وكان للمرأة المصرية، ممثلة في المبدعات، دور بخلاف المطربات صاحبات الأصوات الرنانة الوطنية التي ظلت محلقة في وجدان الأمة العربية؛ حيث قوة تأثير الكلمات وما لها من دور مهم في تعزيز الحس الوطني، ومن هؤلاء، الشاعرة نبيلة قنديل؛ زوجة الملحن والموزع الموسيقي صاحب الإبداعات على إسماعيل؛ حين تضافر إبداعهما؛ ليخرجا إبداعات متعددة؛ منها أغنيتين، الأولى "راجعين" وفيها تنوع أداء الكورال بجانب التوزيع الآلي؛ ما خلق حالة شعورية جاذبة للمستمع، وهنا حدثت حالة من التكامل؛ عن طريق كلمات شديدة الحماسة ترفع عزيمة الجنود وتدعو للتكاتف ووحدة الشعب ضد العدو؛ وتؤكد الإيمان بالواجب الوطني والقسم باسم مصر، أما الأغنية الثانية فهي "أم البطل" للمطربة شريفة فاضل؛ حيث عبّرت الأغنية بصدق متناهٍ عما عاشته من واقع مرير لفقدان ابنها الأكبر السيد بدير عقب استشهاده في الحرب، وما في هذه الحالة من تناقض شديد بين فخر الأم بابنها البطل كأحد رموز قوات الجيش الباسل الذين راحوا فداء هذا النصر العظيم للوطن، وحزنها الدفين على فراقه، وتغلب هنا عبقرية الأداء لشريفة فاضل، والتي أبدعت بصدقها في تأكيد كل كلمة ومعنى بإحساس مرهف؛ فحققت نجاحًا كبيرًا.

ومن أروع الأغنيات الوطنية لمحمد الموجي "ﻴﺎ ﺃﻏﻠﻰ ﺍﺴﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻭﺠﻭﺩ" التي ﻏﻨتها ﻨﺠﺎح سلام؛ كما تغنت الرائعة شادية؛ بمجموعة من الأغنيات الوطنية في مناسبات عدة؛ منها "أمانة عليك أمانة"، "بلد السد"، وبعد مرور سنوات غنت "يا حبيبتي يا مصر"، وكثير من الأغنيات المحفورة في أذهاننا وأرواحنا.

وكانت الحالة العامة يغلب عليها الفرح بهزيمة العدو الصهيوني؛ حيث شدت مبدعات الأمة العربية بالأغنيات الوطنية التي صالت وجالت في وجداننا جميعًا ورسخّت مشاعر النصر والانتماء لأمة تستحق أن تظل رايتها دائمًا شامخة أبية.