حوار| الأديبة السعودية بشائر محمد: الأدب السعودي يعيش عصره الذهبي في ظل رؤية 2030

دور الأديب تقديم قضايا المجتمع بلغة قريبة إلى الناس الكتاب المسموع احتل مكانة مرموقة تماشيًا مع سرعة العصر الحالي

يتخذ الأدب عند الأديبة والشاعرة السعودية بشائر محمد، طابعًا عمليًا، بمعنى أنها قررت تركيز موضوعاتها السردية على جملة من القضايا الاجتماعية في المقام الأول، ولكنها استطاعت أن تنجو من فخ الانخراط الفج في الحدث الراهن، وإنما أكسبت أدبها، عبر انخراطها في الهم الإنساني العام، نوعًا من الديمومة.

ناهيك عن أن الأدب عند بشائر محمد ليس تشخيصيًا فقط، أي أنه ليس تشخيصًا لأمراض المجتمع وأعطابه عبر العمل الأدبي، وإنما هي تتقدم بأدبها خطوة أخرى إلى الأمام، وتحاول من خلاله أن تقدم علاجًا لما يعانيه المجتمع من مشكلات ومعضلات على شتى الأصعدة.

التقينا الأديبة السعودية في محاولة للاقتراب من تجربتها الأدبية، ومنجزها السردي، وكان لنا معها الحوار التالي..

الأدب السعودي

كيف ترين العلاقة بين الأدب والمستقبل؟ وإلى أي مدى الخيال قادر على إيقاع الواقع في الشَرَك والتنبؤ بما سيأتي؟

هذا من الأسئلة الصعبة التي لا يمكن الإجابة عنها بدقة، والحديث عن المستقبل والأدب يقودنا إلى الحديث عن وظائف الأدب ذاته، التي لطالما كانت وما زالت محل أخذ ورد بين الكثير من الأدباء والفلاسفة والنقاد.

إلا أن الأديب، من وجهة نظري المتواضعة، يملك فرطًا في الحساسية تجاه الأحداث، وهو ما يجعله يقرأ الحدث قراءة مغايرة للإنسان العادي، قراءة خاصة به تقوده إلى التنبؤ بما يؤول له مستقبلًا، وبما أن هذه النبوءة تغيب عن الناس العاديين، فغالبًا يجد الأديب نفسه في صدام مع من حوله، لأنه ببساطة يسبقهم في المعرفة، والتاريخ مليء بالكثير ممن عارضهم أقوامهم في أمور، ثبتت صحتها لاحقًا.

الأدب ودوره في الواقع

الأدب، في كل عصر من العصور، يناط به دور مهم ورئيس عليه أن يؤديه، حسب الملامح الرئيسة والسمات البارزة لكل عصر، ويجب عليه مراعاة التفاصيل الدقيقة للعصر الذي يعايشه، وإلا سيبقى معزولًا في برج أو صومعة بعيدة، وبالتالي يتعذر عليه ممارسة أي دور يتعاطى من خلاله مع الناس مؤثرًا ومتأثرًا.

في عصرنا الحالي، يجب أن يستوعب الأدب الواقع وبسرعة، يغادر صومعته ويرمي بردته فيمشي مع العامة في الطرقات، ويجالس الفقراء والمحرومين، ويواسي التعساء، يجب أن يفكر كالمراهقين ويتفهم ثورتهم، غضبهم، وطموحهم، أن يستعير نظرة اليائسين من الحياة ليعرف كيف يفكرون وماذا يريدون؟ وإلى أي المسالك يمكن أن تأخذهم أفكارهم، يخالط الحاقدين الناقمين الغاضبين.

يستخدم الأدب كأداة لمعرفة كل هذا، بل معالجته أحيانًا، يقول تولستوي «على الإنسان أن يكون رحيمًا لأن الرحمة تجمع بين البشر، وأن يكون أديبًا لأن الأدب يوحد القلوب المتنافرة»، وحتى يخاطب عامة الناس ويوجه إليهم رسائله بوضوح، يجب أن يتخلص من الإبهام والغموض واللغز ويبتعد عن الحذلقة والتشدق، واعتماد اللغة السهلة اليسيرة القريبة من أفهام الناس العاديين.

المشاركة في الهَم المجتمعي

وأجدني هنا بين يدي تولستوي أردد مقولته "أن تقول: هناك عمل فني جيد لكن لا يفهمه الناس، كأننا نقول إن هناك طعامًا جيدًا جدًا لكن معظم الناس لا يستطيعون أكله"، كذلك يجب على الأدب -إن كان صادقًا في محاولة مسايرة العصر- أن يخرج ما استطاع من دائرة الأنا الضيقة، النزعات الذاتية المحضة، والانتقال من وصف الذات ومشاعرها والإغراق فيها والحديث عن خلجات النفس وهمومها إلى دائرة الهم الإنساني والمجتمعي، والإحساس بالآخر، وتبني القضايا المجتمعية وتقديمها بكل صورة ممكنة، وتنقية أساليبه من كل ما يثقلها ويعيق مرورها إلى أذهان الناس أو يبعدهم عنها، من الجماليات والمحسنات، ويحتفظ بها لنفسه إذا خلا بها فكتب عن ذاته.

فأنا لا أنكر ذاتية الأدب البتة، فهي لازمة له، بل إن تولستوي نفسه أثبت أن الأدب يغذي ليس جانبًا روحيًا فحسب، بل إنه يلبي حاجة فطرية لدى الإنسان لا علاقة له بدراسته أو تخصصه، وساق دليلًا على ذلك ما لاحظه من استمتاع الأطفال بالسرد القصصي والحكايات، وهي متعة فطرية.

تتنقلين بين فنون كتابية شتى.. الشعر، الرواية، السيناريو، والصحافة، ما السر وراء ذلك؟

حتى تمتطي فرس الكتابة الأدبية الإبداعية يجب أن تكون جسورًا مقدامًا تحلق في كل أفق وترتاد كل المساحات، تعلق أرجوحتك فوق الغيم، تجيد ليّ عنان الجمل والمفردات وتطويعها، تمتلك الشغف الذي يقودك إلى المعرفة، والفضول الذي تفتح به مغالق كل فن، لن يخونك قلمك إذا كنت واثقًا مقدامًا متمكنًا. احمل قلمك وامض.

ما أفعله أنا ليس تنقلًا بالمعنى الذي أردته، فأنا فيهم جميعًا في كل وقت، ففي الوقت الذي يأخذني الشعر فأكتب قصيدة، يعيدني حالما أنتهي على جناح السرد لأكمل رواية تمتد معي لسنوات كتابية، وتاريخنا الأدبي حافل بكثير من الأدباء الذين حلقوا في أكثر من مجال أدبي بنفس الألق والتميز.

وهذا ليس بغريب، وليس بالغريب أيضًا اجتماع الأدب والشعر مع مجالات أبعد ما تكون عنه كالعلوم، وخير مثال على ذلك علماء المسلمين الأوائل؛ ما يعني أن الأدب حياة، ولا يمكنه أن يتعارض مع شيء في حياة الإنسان، من هنا كان الأولى به أن يمارس ما يترتب على هذا الأمر، من مشاركة الناس حياتهم العادية والتعبير عنها.

في روايتكِ «يقتلون الفراشات» الموت بداية والميلاد نهاية، هل هناك أمل حتى وإن كنا نُعاقب على خطيئة لم نرتكبها؟

سارة في رواية "يقتلون الفراشات" ليست إلا رمزًا إنسانيًا لكل من يدفع ثمن خطأ لم يرتكبه، ويُعاقب على جريمة لم يقترفها، وهم كثر في واقعنا، مع الفارق في نوع العقوبة وشدتها، فالفتيات في مكان ما تدفع ثمن استهتار بعض الرجال وفسادهم الأخلاقي، فيضيق عليهن الخناق وتشدد عليهن الرقابة، بل المغتَصبات والمتَحَرش بهن يضطررن إلى الصمت أحيانًا خوفًا من جور المجتمع الذي يبحث فيهن عن شمّاعة يعلق عليها بشاعة سلوك المتحرش.

الأطفال اللقطاء، أيضًا، تقسو عليهم مجتمعاتهم ويدفعون ثمن علاقة غير شرعية لرجل وامرأة لا يعرفونهما، وإذا انفصل الزوجان أو استهتر أحدهما دفع الأبناء الثمن، نحن في الحقيقة لا نستطيع أن ننأى بأنفسنا عن تحمل تبعات بعض الأمور التي لم نقترفها، وعلى كل الأصعدة.

ولا يستطيع شخص واحد أو مجموعة قليلة من الناس مواجهة سلوك جمعي انتهجه الأكثرية، فليس أمام من وقع في هذا الشرك إلا أن يقاوم ببسالة، ولا يستسلم؛ فدائمًا هناك أمل، لا أحد يملك الحق بوضع نقطة النهاية لأحد ما، سوى الإنسان نفسه.

وحدك من يقرر، ووحدك من يصنع البدايات الجديدة.

ما هي جدوى التدريب على الكتابة الأدبية؟

هذا السؤال يقود إلى إشكالية كون الكتابة الأدبية مهارة أو موهبة، أي هل يولد الإنسان كاتبًا، أم أنه يتدرب على الكتابة حتى يتقنها؟ ولعلنا نتفق على أن البعض يولد ولديه صفات وملكات خاصة تجعل منه كاتبًا، إلا أن هذا من وجهة نظري المتواضعة ليس كافيًا لإيجاد كاتب مميز، ما لم يترافق مع الموهبة الشغف وسعة الاطلاع، والذكاء في تلمس الموضوعات التي تنتظر من يُعمل فيها فكره فينهمر الإبداع؛ لذلك كان التدريب على الكتابة الأدبية، وامتلاك أدواتها أمرًا ممكنًا جدًا مع الممارسة والمِران.

كيف تنظرين إلى الأجيال الشابة من الأدباء؟ هل القضايا التي تشغل أقلامهم على قدر المرحلة؟

أجد نفسي أثق في الأقلام الشابة ثقة كبيرة، وأقرأ ما يصلني من إهداءات من الشباب والفتيات، بل أقتني من الكتابات الشبابية ما يمكنني من التجول في فكر النشء الجديد، لأتأمل الطريقة التي يفكرون بها، والموضوعات المستقبلية التي يهجسون بها، ويحدث كثيرًا أن تأخذني الدهشة من العمق في فكر بعض الشباب وجدة موضوعاتهم.

تكيّف الأدب

تنتهجين نهج الجمل القصيرة، وأحجام رواياتكِ صغير إلى متوسط، ما السر وراء هذا التكثيف في المعنى؟

أنا شخصيًا مؤمنة بأن الإطالة في أمر ما تسبب الشعور بالملل لدى الأشخاص العاديين مهما كان هذا الأمر ممتعًا، ويلفت نظري من يتحدث بذكاء ويصمت في الوقت الذي تتمنى فيه أن تستزيد من حديثه، عكس الأشخاص الذين يتحدثون حتى تتمنى لو أنهم سكتوا.

بالإضافة إلى أننا بمواجهة جيل وعصر مختلفين عن الجيل والعصر السابق، فمن غير الممكن أن نتجاهل هذا الاختلاف ونتعامل معهم بجمود غاضين الطرف عن مواضع الاختلاف، فنحن بمواجهة جيل لا يقرأ في الغالب، وإذا قرأ، فإنه لن يستطيع التخلص من السمة الغالبة لهذا العصر (السرعة).

وعندما أقول إن هذا الجيل في الغالب لا يقرأ فأنا لا أنفي ثقافته ولا أنكر اطلاعه ووعيه، بل إنني أعني أنه اعتمد موارد أخرى تمده بالمعرفة غير الكتاب وهي كثيرة في وقتنا الحاضر.

لذلك؛ فأنا عندما أكتب كتابًا أو رواية تتألف من 500 صفحة مثلًا أكون استبعدت أغلب الجيل الشاب من حساباتي، وبالتالي من حقهم الإعراض عني وعن كتبي، بل حكمت على كتبي بالبقاء فوق الرفوف البعيدة التي لن تطالها إلا بعض الأيدي المتخصصة، ومن وجهة نظري أن هذا هو أسوأ ما يمكن أن يقوم به الأدب أو الأديب؛ فليست وظيفته تعبئة الرفوف بالكتب التي يستريح فوقها الغبار، على الرغم من أن روايتي الجديدة ستكون بحجم أكبر نوعًا ما حيث فرضت عليّ سطوة السرد أن أتناول بعض التفاصيل المهمة التي يحتاجها العمل.

الأدب النسائي في المملكة

لديكِ دراسة حول «المكان البديل في الرواية النسائية السعودية»، ما هو واقع الأدب النسائي في المملكة؟ وهل من فرص أو تحديات أمامه؟

نعم كان هذا هو عنوان البحث الذي تقدمت به للحصول على درجة الماجستير من جامعة الملك فيصل بالأحساء، وأنا بصدد إعداده للطباعة، وتناولت هذه الدراسة عددًا من الروايات النسائية السعودية في الحقبة الزمنية ما بين عامي 2000 و2010؛ حيث شكل المكان البديل ظاهرة في أغلب الروايات النسائية السعودية الصادرة في تلك الفترة، وبرز كحيلة سردية تلجأ لها الكاتبات السعوديات للكثير من الأسباب.

أما الأدب والثقافة في السعودية حاليًا فليسا بمعزل عن التطور والانفتاح الذي جاءت به الرؤية المباركة على يد رائدها سمو الأمير محمد بن سلمان؛ وطال هذا التطور والانفتاح كثيرًا من جوانب الحياة الاجتماعية، والثقافية، والأدبية؛ لذلك فإن الأدب بشكل عام والأدب النسائي تحديدًا يعيش عصرًا ذهبيًا على كل الأصعدة والمستويات من ناحية الشكل والمضمون، وظهرت موضوعات سردية جديدة مثل: الحديث عن تمكين المرأة، وطموحها وإنجازاتها، كما حظي الأدب بالمزيد من الرعاية الأدبية الرسمية للإبداع والمبدعين.

كيف تنظرين إلى أطروحة "سارتر" حول "الأدب الملتزم؟

هناك فرق بين الإيمان النظري العام بوظيفة الأدب (النظرية الأخلاقية) وبين الالتزام الذي تجاوز النظرية الأخلاقية بكثير، ووصل إلى درجة القيد الذي يُلزم به الأديب إلزامًا، والذي أوقع حتى سارتر نفسه في مأزق جعله يستثني بعض الأصناف من الالتزام الذي ألزم به الأدب، كالشعر وبعض الفنون.

وما عداه فإن سارتر يحمل الأديب المسؤولية عن كل ما يحدث حوله، فيطلب منه أن يدعو للحرية وينبذ الظلم والعنف ويواجه الأنظمة الفاسدة، ويدعو للأخلاق والقيم، منكرًا ذاته في سبيل هذا، إلا أنني أرى أن الأدب شأنه شان كل الفنون ينبغي أن يجمع بين الفائدة والمتعة، كما قال الناقد "رينيه ويلك" في كتابه "نظرية الأدب" إنَّ الأدب يحقق المتعة والفائدة، ولا يجوز أن تطغى إحدى الوظيفتين على الأخرى، بل يجب أن تندمج المتعة والفائدة في العمل الأدبيّ اندماجًا عضويًا.

فللإنسان حاجات جسدية وروحية، والأدب يفي بجزء كبير من احتياجات الإنسان الروحية التي لا يمكن إغفالها، على أن هذا الأمر ينبغي ألا يشغل الأديب عن ممارسة دوره الإنساني في تلمس قضايا مجتمعه، ومن هم حوله والتعبير عنهم.

كيف ترين الواقع الأدبي والثقافي في المملكة خلال هذه الفترة؟

لا بد للأدب أن ينطبع بأحداث عصره وما يجري حوله، ففي الوقت الذي وجهت الدولة اهتمامًا متزايدًا بالأدب والأدباء وأنشأت له المؤسسات والجوائز والمسابقات، بدا الأدب مطواعًا مرنًا يحاول الاندماج مع النسق الحضاري السائد، فخف التزمت حيال الكتابات الشابة التي لا تسير على منوال السابقين مما يراه الأدباء مسارًا لا يجب أن نحيد عنه، ومن خالفه انتُقد واستهجن، كما بات الكتاب المسموع يحتل مكانة مرموقة تماشيًا مع سرعة العصر ورغبة في استغلال الوقت واستثماره.

وبدأ الأدباء في استهداف كل أطياف المجتمع بكتاباتهم ولم يعد مصطلح (النخبة) أو استهداف النخب أمرًا محمودًا لكل الكتّاب والمؤلفين، إن كان الكاتب يهدف إلى إيصال رسالة للمكون الأكبر في المجتمع.

اقرأ أيضًا: حوار| بسمة بنت عبدالعزيز الميمان: السياحة السعودية مبشرة في ظل اهتمام حكومة خادم الحرمين الشريفين