«النوم في حقل الكرز».. تراجيديا الوجع العراقي

تقودنا محاولة التحقيب للرواية العراقية إلى القول بأن المُنجَز السردي قبل العام 2003 ليس كما هو بعده؛ حيث لا يعني ذلك أن الأدب اكتسى ثوبًا سياسيًا، وانقلب من قول الأدبي إلى قول السياسي، أو أن السياسي قد اعتلى منبر الرواية؛ بل إن الأمر على عكس ذلك تمامًا.

فأدب ما بعد 2003 اتخذ طابعًا إنسانيًا أكثر منه سياسيًا، وقد تجلى ذلك، على سبيل المثال، في رواية النوم في حقل الكرز للكاتب أزهر جرجيس، والتي وصلت مؤخرًا إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، فمأساة بطل الرواية "سعيد ينسين" تكمن في كونه رجل يطارده شبح أبيه، ذاك الأب لم يُعثر على جثته بعد، والذي لن يستطع "سعيد" الظفر له بقبرٍ يواري عظامه؛ التي لن يعرفها ابنه؛ فقد دُفن الرجل في مقبرة جماعية قبل ثلاثين عامًا من نبش هذه المقبرة الجماعية ومحاولة التعرف على الجثث.

ليست العبرة هنا في سبب قتل هذا الأب، وإنما في مثابرة "أزهر جرجيس" كي يرينا مأساة الأب في واقع الولد "سعيد ينسين"، حتى بعد أن قرر الإبن الرحيل إلى النرويج بعدما ضاق به الوطن بما رحب؛ إذ تأتيه رسالة من بغداد: "ارجع إلى بغداد يا سعيد الأمر ضروري"؛ فللحزن ناسه، وهو يعرفهم ويناديهم بأسمائهم.

حكاية تقودها الصدفة!

تبدأ الرواية/ الحكاية كلها بصدفة من نوع ما؛ إذ يخطأ ساعي بريد ما في وضع رسالة بريدة في مكانها الصحيح؛ فتقع في يد مهاجر عراقي؛ وقد كانت في الأصل موجهة إلى شخص ما لحضور أحد الاحتفالات في جريدة كان يواظب على قرائتها، وقد قرر ذاك الذي عثر على الرسالة بالخطأ أن يتصل بالجريدة ليستوثق من الأمر؛ فما كان من القائمين على الجريدة إلا أن دعوه إلى الحفل، ومن هنا بدأت الحكاية.

إنها، إذًا، حكاية تقودها الصدفة، وأي صدفة أشنع من أن يفقد المرء كل شيء جراء طيش ما، سواءً أكان طيش أحد يخصه أم لا، ولعل "أزهر" أراد بهذه الافتتاحية السردية أن يسخر من كل ما يظنه الآخرون جِد، فأي جدية هذه التي تكمن في الحروب والخراب والدمار؟!

خلال الحفل، وبعدما تتعرف رئيسة التحرير على الرجل وتعرف أنه عراقي، تطلب منه أن يترجم آخر ما كتبه الكاتب العراقي المهاجر والذي مات لتوه "سعيد ينسين"، يوافق على الترجمة، وتبدأ الحكاية!

رحلة البحث عن وطن بديل:

في الرواية مسعيان للحصول على وطن، الأول هو مسعى ذاك العراقي الذي انقطعت به في بلده السبل، فيحاول أن يذهب إلى عمان (الأردن) ثم يقرر في ساعة طيش ما أن يهاجر إلى النرويج.

وخلال رحلة الهجرة إلى بلد الثلج "النرويج" يتكبد الرجل ما لا يخطر على البال من المشقات والمتاعب، وهل للمهاجر أو طالب اللجوء من حق ما في هذا العالم البغيض؟!

وهذه المحاولة هي، وفي العمق، محاولة للحصول على وطن بديل لكن "الأوطان البديلة لا تمنحنا الراحة كاملة ما دمنا قد قضينا ثلث حياتنا هناك".

لا يوفر الوطن البديل راحة كاملة الدسم، وإنما يجلب معه عذاب الذكريات؛ فبطل الرواية، مثلًا، ظل عالقًا ذهنه بأمه في بغداد، ومطاردًا بشبح أبيه وهو في النرويج، ذاكم الأب الذي لم يحصل على قبر بعد.

ومن هنا تأتي المحاولة الثانية، وهي محاولة العثور لهذا الأب الذي أمسى شبحًا على قبر، أراد الولد أن يعثر لأبيه على موت لائق طالما لم يستطع الأب ذاته توفير حياة لائقة لنفسه.

لكن هذا الأب تاعس الحظ؛ فكما لم يحصل على حياة لائقة، فلن يحصل على موت لائق، ولن يجمع قبرُ عظامه، بل لن ينام في حقل الكرز كما فعل الرجل النرويجي ياكوب يوندال الذي أوصى بأن يُدفن في حقل كرز؛ كي يتحول إلى كرزة فيما بعد.

تراجيديا الوجع العراقي

خلال الرحلة الشاقة التي قطعها "سعيد" من بغداد مرورًا بعمان وصولًا بألمانيا، ثم أخيرًا إلى النرويج، نعثر على نُتف سردية لحكايات جمة؛ حكايات ملئها الوجع والأسى، لكن "أزهر جرجيس" يشير إليها على نحو خاطف ثم يتجاهلها عمدًا في سياقه السردي فيما بعد، فهل ينتبه أحد إلى هذه المآسي الخفية، وتلك الأوجاع التي يعض أصحابها على أنيابهم كي يخفونها؟!

ومن بين الحمولات الدلالية لهذه النُتف السردية، أن هناك عزف جليّ على أوتار لحن عراقي حزين، ثمة تراجيديا عراقية، ناهيك أصلًا عن مأساة "سعيد" التي أسهب الكاتب في شرحها وبيانها.

فـ "سعيد" هذا مثلًا، مُني بشدائد شتى، ولم يفلح في شيء واحد في حياته حتى في الحب، فـ"تونا ينسين" المرأة النرويجية التي أحبها أصيبت بسرطان في الكبد ثم ماتت، ولهذا سُمي بـ "سعيد ينسين" نزولًا على رغبتها في أن يكون الإسم الثاني هو اسم عائلتها، وفي ذاك لفتة من نوع فريد، فهل يحق لولد أن ينُسب لأب لم يفلح في الظفر له بقبر؟!

وتلك التي أحبها في بغداد ماتت في انفجار ما، في حادثة وصفها المؤلف بأنها "انتصار على العصائر"؛ إذ كان سعيد منتظرًا عبير في إحدى محال بيع العصائر.

لم يستطع سعيد، بعدما قرر العودة إلى بغداد، لدفن جثة أبيه، في الحصول على قبر له، فيعود إلى النرويج، ويقرر مواصلة العيش في وطن بديل!

اقرأ أيضًا: علي حبيش ومجدي أنور.. محاولات لاستنطاق الحجر والخروج عن المألوف