المهرج ومهنة الأوجاع المضحكة

يقوم المهرج بحركات مضحكة بالإيماء والرقص والقفز، يعتمر قبعة رأسه الغريبة، ويطلي وجهه بالألوان الفاقعة. ودائمًا ما نجد الأطفال أكثر الحاضرين استمتاعًا بهذه الفرجة المسلية والمثيرة للضحك.

ينتهي العرض المرح ويتفرق الناس بحثًا عن مشهد آخر، وصانع البهجة والضحكة يجلس وحيدًا حزينًا نائيًا عن الفرح. فهل هذا الرجل الذي يبتسم في كل الوجوه، ويلون وجهه بالمساحيق، يمتلئ قلبه بنصيب منها؟ هل يعيش الحياة سعيدًا وهو يقتات من مهنة زرع الضحكة؟

في زمن مليء بالنكبات والهموم، هل يلقي حقًا بهمومه وراء ظهره قبل أن يرتقي خشبة المسرح؟ وعندما نتحدث عن المهرج في الفنون الأخرى إنما نتحدث عن الفن الأكثر إثارة وقدرة على الإدهاش.

المهرجون في فرنسا

تعتبر مراكز تجمع المهرجين وهواة التهريج الأساسية في باريس، خارج المسارح والسيرك في المركز الثقافي الوطني، ساحة جورج بومبيدو. وأمام المقاهي الشهيرة.

ويوسعون نشاطاتهم في الأماكن السياحية الرئيسة في باريس مثل الحي اللاتيني وفي الشانزلزيه. حيث يقدمون عروضهم أمام مقهى الفوكيت. ومقهى لو باريس ودوفيل وفي ساحة السان جرمان بالقرب من مقهى دوماغو الشهير.

كما يفضلون في الصيف وخلال مهرجان كان السينمائي تقديم عروضهم الفردية أو الجماعية أمام المقاهي. وفي الساحات وعلى امتداد شواطئ الكوت دازور على الكورنيش. في مدينة كان وانتيب وجون لوبان وسان رافائيل، وفي إمارة مونت كارلو الساحرة.

ويجشد المهرج طريقة خاصة في العيش بأسلوب مغاير للآخرين، فهو يقوم بكل ما من شأنه إضحاك الناس ولو على حساب حياتهم الخاصة المليئة بالمصاعب والضائقة المادية. لكونهم لا يتاقضون أي تعويضات أو ضمانات اجتماعية وصحية.

كذلك تعد مهنتهم مهنة الأوجاع المضحكة واللعب على المتناقضات. في المدن الغربية الكبرى يحتفى بالمهرجين كفنانين شعبيين. وقد تفوقت لندن عليهم جميعًا فخصصت يومًا للمهرجين في جميع أنحاء العالم.

حيث يحلم الكبار باستعادة طقوسهم ولملمة مشاكلهم في لحظة ضحك وخروج مؤقت عن هموم العصر ومشاكله.

ولكن يظل الأكثر سعادة هم أصدقاء المهرج ومحبيه من الأطفال الذين يتعايشون ببراءتهم وطفولتهم مع ذلك الإنسان الملون المدهش. الذي يحملهم إلى حدائق الفرح والدهشة والانبهار.. فمهنة المهرج صنع البهجة والضحكة على الوجوه المتعبة التي تعاني الاكتئاب.

المهرجون في أعمال السينمائيين الكبار

يصفهم المخرج “فليني” الذي صنع أجمل أفلامه عن المهرج الجوال في فيلم “الشارع” بطولة أنطوني كوين. قائلًا: “المهرج يعكس صورة كاريكاتورية عن المجتمع وهو لا يلغي المأساة ولا يغير بشاعة الواقع، بل يحاول إجراء عملية تجميل له”.

وقد عرفناه سينمائيًا من خلال الفنان الأسطوري ”شارلي شابلن” الذي لعب شخصيته في فيلمي سيرك وليملايت. وفي الفيلمين دجن شارلي المأساة الإنسانية بالفن والسخرية. وتحايل على وجع الإنسان لينساه لساعات قليلة، ويعيد له التوازن النفسي والصفاء. بإضفاء جو الهزل على تصرفاته وحركاته المدهشة التي تشيع الضحكة في الوجوه المتجهمة.

وفي رؤية إجرامية لمهرج السيرك ابتدع المخرج العالمي “هتشكوك” في بعض أفلامه، شخصية اتسمت بالرعب ومناخ الجريمة متخذًا من مهرج السيرك الذي يبدو من وجهة نظره مجرمًا يتستر وراء براءته. ويتخذ منه أداة لتنفيذ القتل الذي يتم غالبًا في كواليس خيمة السيرك. وقد اعتبر النقاد أنها رؤية غاية في التطرف السلوكي لا تتفق مع الرسالة الأصلية والإنسانية.

المهرجون في الأوبرا والمسرح

شكسبير أول من كتب عنهم في أعماله المسرحية ونجد المهرج حاضرًا بقوة في مجال المسرح والأوبرا. حيث قدمت عشرات الأعمال التي تعرض لشخصيته، لكن أهمها على الإطلاق هي “أوبرا ريجوليتو”.

كما اتخذ شكسبير من المهرج أداة مهمة ليقدم على لسانه الحكمة كما في معظم أعماله الدرامية، مثل شخصية “ماركشيو” في “روميو وجوليت”. ومهرج البلاط في “الملك لير”. فالمهرج في معظم الفنون الأخرى كان الشخصية الأكثر إثارة وقدرة على الإدهاش والسخرية.

الحضارات الأولى

ظهر المهرج منذ الحضارات الأولى في اليونان وروما القديمة والبلاط الملكي في مصرو الصين. فالتقاليد الصينية العريقة كانت تجعل من مهرج الإمبراطور الشخص الوحيد القادر على أن يقول كل ما يخطر في باله، بما في ذلك أن يوجه أي انتقادات يشاء. شرط ألا يتجاوز الحدود، وأن تكون انتقاداته، مرتبطة بالمجال العام.

وفي القرن السابع عشر بدأ التهريج بالظهور من خلال المسرحيات المختلفة في بريطانيا، ووضع روبرت أرمن أول كتاب يصدر في العالم حول المهرجين والتهريج. معتبرًا أن المؤسس الأول لشخصية المهرج الحديث هو جوزيف غريم الإيطالي الأصل والذي عمل أساسًا في بريطانيا.

المهرجون عند العرب في قصور السلاطين والملوك

عرف العرب المهرجين في قصور السلاطين والملوك والأمراء والخلفاء. واعتبر المهرج القديم الهزلي الذي كانت بلاهته الحقيقية أو المصطنعة مصدر تسلية لأسياده، ومكنته في كثير من الأحيان توجيه النقد اللاذع إليهم دون أن يخشى سوء العاقبة.

مهرجو السيرك من المفضلين والمحببين للأطفال

المهرج هو بحق جوكر السيرك العالمي والمحلي، فهو يجمع في الفقرة التي يقدمها بين الضحك والموعظة، وهو الشخصية الأكثر سيطرة على مشاعر المتفرجين خصوصًا منهم الصغار، وهم يتعاطفون معه بطريقة غير مباشرة؛ حيث يتعايش الأطفال ببراءتهم أمام عالمه الملون الصاخب بالموسيقى العالية التي يتحرك على إيقاعها.

إن شخصية المهرج متعددة الرؤية، فبعض المدارس في الطب النفسي تعتبر المهرج هو ذلك الرجل فائق المرونة سريع الحركة وسط ثياب ملونة وأصباغ تزيد وجهه غرابة. ويعتبرونه كفلتر للمشاعر الحزينة داخل الإنسان. بطريقة غير مباشرة وتلقائية، وهو يطهر النفس من كل ما علق بها من مشاعر سلبية. حطت برحالها عليها خلال مسيرتها في الحياة.

وربما هذا الغرض الجاد والأساس، إذ إن شخصية المهرج التي يخاطب بها الصغار ملوحًا لهم بالفرحة والأمل، وتحمل لهم مضامين تعليمية وتربوية. غير مباشرة تنتقل في سهولة رائعة للصغار.

صورة المهرج في الأدب العربي والعالمي

اهتم بشخصية المهرج العديد من الكتاب؛ وقد ألف عن المهرج والمهرجين حوالي 16 ألف كتاب بجميع لغات العالم. ويصفه الكاتب الأمريكي آرثر ميلر، قائلًا: المهرج هو حقيقة الإنسان، إنه يمثل كل ما في مهزلة الحياة من سخرية. وهو الرمز الأكثر قدرة على التعبير عن العمق الحقيقي للوجود.

ويكتب عنه أرنست هيمنجواي قائلًا: هو العرض الوحيد الذي يوحي لمشاهديه أنهم يحيون في حلم سعيد. ألا يكفي هذا سببًا لنعشق السيرك.

المهرج في الفنون التشكيلية العالمية

في الفن التشكيلي اعتبره كبار الفنانين العالميين خامة جيدة تصلح للتشكيل، ومادة مليئة بالحركة والألوان وبداخلها مشاعر إنسانية غنية، وموضوعات إنسانية فيها الكثير من التخفي والإفصاح ، عالم مثير للتعبير، ومنبعا خصبا للإبداع.

ومن أشهر الفنانين الذين تناولوا في لوحاتهم المهرجين، كل من: بول سيزان، وأنطوان، وانو ورينوار الذي رسم عدة لوحات عن السيرك منها لوحة المهرج الأحمر.

رسمة “المهرج الأحمر” للفنان الفرنسي “أوغوست رينوار”

أما الفنان «بيكاسو» فقد رسم مجموعة لوحات حول المهرجين وحياة السيرك، وما يدور في الخفاء من حكايات حزينة فرسمهم في مراحل حياتهم الضاحكة والتعيسة، كرسمه ابنه البالغ في ثياب مهرج. وأطلق على اللوحة اسم “بول” كمهرج من العمر ثلاث سنوات. كما رسم الفنان الفرنسي “غوستاف دوريه” لوحة عائلة البهلوانات أو “الطفل الجريح” التي تجسد مآسي البهلوانيين.

رسمة “الطفل الجريح” للفنان الفرنسي “غوستاف دوريه”

وفي الجانب الآخر الفنان الروسي مارك شاغال لوحة البهلوانات الثلاث ورسم لوحة السيرك الأزرق لشدة انبهاره بهذه الشخصية.

ومن الفنانين العرب الفنان عبد العزيز درويش في لوحته المسماة المهرج الحزين. وتناول الفنان التونسي محمد شلبي المهرج بصورة مركبة معلنة وإيجابية ربما إلى حد التهريج أحيانًا.

بينما وجد الفنان العراقي حيان جابر في المهرج بيئة ثرية فأعجب بشكله المنوع جماليًا وانجذب إليه وعبر عنه في مجموعة من اللوحات. وتناولته الفنانة السورية شلبية إبراهيم التي وصفت المهرج بزيه المميز في أكثر من لوحة.

المهرجون في العالم

يتميز سكان بلدان أمريكا اللاتينية بورعهم الشديد. وفي المكسيك، لا يقتصر هذا الشعور على فئة معينة من السكان، بل يمتد ليشمل حتى المهرجين الذين ينظمون سنويا.

وقد تم اختيار المكسيك مكانا لاجتماع المهرجين وإنشاء إحدى أعرق المدارس حيث يتنافس العشرات في أولمبياد السنوي للمهرجين. والذي يعقد في مدينة مكسيكو، ويجمع هذا الحدث الطريف الاموال والتبرعات لصالح الجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية في المدينة.

عمل المهرج بالمستشفى من أصعب التخصصات في العالم لأن الشخص الذي عليه إضحاك المرضى، يجب أن يتمتع بصفات الممثل الممتاز وبالحس الإنساني المرهف. ليشعر بالطفل المريض ومعاناته ويتفهم عالم هذا المريض الصغير. وأولياء أمورهم على التغلب على الإجهاد والتوتر خلال جميع مراحل العلاج .

الرابط المختصر :