"الفابريكة".. تِذكارٌ مُقدس

رجل حَرّكْته رسالة، فأتت به من فرنسا إلى إحدى قرى مصر؛ ليعرف ما هو وما سر وجوده، وهل ثِمة شيء أهم من أن نعرف أنفسنا والغاية من وجودنا؟ إنه بطلنا "منصور رينار" الذي آلمه سؤال الهوية والماهوية، فشده ذلك في رحلة من باريس إلى مصر؛ ليكشف السر ويحمل الرسالة المزعومة؛ فما حكاية منصور وما حكاية "الفابريكة"، رواية أحمد الملواني؛ التي فازت بالمركز الأول كأفضل رواية في جائزة "ساويرس"، فرع شباب الكتاب، لعام 2019؟ تبدأ رواية "الملواني" بشكل مربك؛ إذ يحاول في الفصل الأول أن يختصر الحكاية برمتها، بيد أنه لم يفعل سوى إرباكنا وتشويقنا في الوقت ذاته.

تدور أحداث الرواية حول رجل فرنسي مُحب للعلم وشغوف به، يأتي إلى مصر مع الحملة الفرنسية، فتأسره حضارة الفراعنة، فيعمل جاهدًا على استنطاق أسرارها ومعرفة مكنوناتها، يعمل هذا الرجل على تدوين علومه ومعارفه وتعاويذه في دفتر صغير ــ ستدور عليه رحى القصة برمتها ــ، بيد أن هذا الدفتر سيُفقد، أو هكذا تقول الرواية في مطلعها، وسيؤرق هذا الدفتر، فيما بعد، كل عائلة "سيمون رينار"، حتى يأتي "منصور رينار"؛ حفيد الجد الفرنسي، ويشد الرحال إلى قرية مصرية فقيرة ليعرف أسرار الأجداد والتعاويذ معًا، بعد أن يتلقى رسالة مختومة بالشمع تطلب منه المجيء إلى القرية ليستلم ميراث جده الأكبر، والذي هو إرث روحي أكثر منه أي شيء آخر.

يترك "منصور" عمله في أوديلو بفرنسا، وهو عمل هام بالمناسبة، ويقرر، هكذا بشكل صبياني أو شجاع كما تشاء، أن يشد الرحال إلى تلك البقعة الفقيرة التي وطأتها قدم جده من قبل؛ ليكتشف في هذه القرية كل أصناف القبح وألوانه.

يستخدم "الملواني" وجود "منصور" في القرية في كشف الكيفية التي يتم من خلالها استغلال النصوص الدينية والأساطير والحكايات من قبل السلطات السياسية المختلفة في تدعيم ركائزها؛ فالعمدة "الحاج رضوان" لا يتورع عن فعل شيء بما في ذلك الإتجار بشرف ابنته "وردة" والاتفاق معها على مضاجعة "منصور" حين كان نزيلًا في بيت العمدة؛ لتدعيم سلطته وبسط هيمنته، كما أن "رضوان" هو الذي صنع الكثير من الأساطير والخرافات التي انتشرت في القرية، وهي نفس الطريقة التي كان يتّبعها أبوه "الحاج توفيق" والغرض واحد كما قلنا المكاسب والمنافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

يتعرف البطل في القرية على "الشيخ الربيع"؛ ذاك الرجل الميت الذي يستخدمه العمدة في تدعيم سلطته بالعودة إلى ضريحه وأخذ رأيه فيما ينزل بالقرية من نوازل! والكثير من أصدقاء العمدة المقربين من علية القوم وكبرائهم، وعلى الأولاد المقدسين؛ تلك الأسطورة التي صنعها والد العمدة من قبل؛ لتبرير الزنا وجعله شرعي وقانوني، والفابريكة؛ مكان إقامة أولئك الأولاد المقدسين أو المشردين، والتي كانت في الأصل مصنعًا للخواجة الكبير.

وعلى طول الرواية وعرضها تظل شخصية العمدة، وليس منصور، هي قطب الأحداث ومحركها في أغلب الأحوال، فهو الذي اخترع كل الحكايات، والذي حرك كل الأحداث، وفعل كل شيء في الرواية منذ اللحظة التي أتى منصور فيها إلى القرية إلى أن شق "صخر"؛ زعيم الأولاد المقدسين، وجه العمدة بسكينه الحاد، واستخلص منه زميلته في القداسة أو التشرد "شجرة".

وطوال الأيام التي أقامها منصور في القرية والعمدة يحاول، ما وسعه الجهد، أن يحول بين منصور وبين "الفابريكة"، فلا يريده أن يذهب إليها، ولا أن يُوثق علاقتها بأولئك الأولاد المقدسين، بيد أن بطلنا، وهو المملوء ذهنه بالأسئلة والشغف والفضول، لا يكف عن المحاولة حتى يتمكن أخيرًا من الوصول إلى هناك عبر مساعدة "صخر".

يصل "منصور" إلى "الفابريكة" ويعاين إرث جده الروحي والمادي معًا، وبما أنه قد نال حظًا وافرًا من العلم فإنه لم يصدق، في البداية، كل ما قيل له لا عن القرية وأساطيرها ولا عن هذه الفابريكة نفسها التي قالوا له عنها، من بين ما قالوا، إن جده استخدمها في تحويل بعض الحيوانات إلى بشر، مثل "شحته"؛ شيخ الخفر، و"لبيب"؛ حارس باب الفابريكة والذي سيقتله "صخر فيما بعد".

وخلال السويعات المتقطعات التي كان يقضيها منصور في الفابريكة تمكن، عبر "صخر" أيضًا، من الاطلاع على الغرفة السرية التي دون فيها جده الأكبر "رينار" أسرار علومه ودقائق معارفه، وسيستخدم منصور هذه الأسرار والمعارف والتعويذات في تشغيل الفابريكة من جديد.

تعمل الفابريكة بالفعل، خاصة وأن منصور سيحصل على الدفتر الذي اشتمل على كل أسرار الجد الأكبر بعد وفاة والدته، وبعد إلحاح "صخر" على "منصور" في مساعدته بإدخال كافة الأولاد المقدسين في الماكينة؛ ليخرجوا حيوانات مفترسة من الناحية الأخرى، ويتحول الأولاد بالفعل، إلا "شجرة"؛ التي آثرت الفرار على التحول إلى نمر أو فهد، إلى حيوانات مفترسة تفتك بالقرية برمتها، وتجعل عاليها سافلها.

ومنذ هذه اللحظة وحتى نهاية الرواية، نتحول من الواقعية المفرطة إلى فانتازيا وخيال جامح لا علاقة له بكل ما فات من الحكاية، فالأولاد أمسوا حيوانات مفترسة، و"نعمان باشا"؛ مالك القرية ومؤسسها الأول، والذي رافقه الخواجة الأكبر ونشبت بينهما صراعات فيما بعد نتج عنها خروج الخواجة من القرية برفقة الطفل المشرد "حسونة"، وفيروز؛ خادمه المخلص، ما زالا يعيشان داخل القصر منذ أكثر من قرن، والعمدة يعرف ذلك ويتعاون معهما عبر استخدام سحر "التتبع" للوصول إلى "الدفتر".

ويجمح خيال الكاتب فيقول، إن جمعيات ومنظمات تُعنى بدراسة الحيوانات أتت إلى القرية لدراسة الظاهرة ومعرفة السبب الذي تسبب في وجود هذه الحيوانات المفترسة في تلك المنطقة غير المتوقعة.

كتب: محمد علواني