أهمية الثقافة المتحفية للأطفال

تلعب المتاحف دورًا متناميًا في حياة الشعوب، إذ تعد حافظة لذاكرة الأمم. ومرآة تعكس إبداعات العقل الإنساني التي تتجلى من خلال ما تحتويه من شواهد ومعروضات. وهي بذلك ليست مجرد مستودعات للأشياء القديمة. بل مؤسسات نابضة بالحياة تنقل البنية المعرفية والثقافية من جيل إلى جيل، وتؤكد على صدق الهوية الوطنية وأصالة التاريخ.
كما تشكل المتاحف حلقة وصل ممتدة عبر الزمن بين الأجيال، وجسرًا ثقافيًا. يعزز التواصل بين الشعوب والحضارات في مختلف بقاع الأرض.

بينما يعد المتحف في جوهره مؤسسة مفتوحة أمام الجمهور على مدار العام، تجمع بين أبعاد ثلاثة رئيسية.: الثقافة، والتعليم، والترفيه. كما تعمل إدارات المتاحف على اقتناء وحفظ المقتنيات المادية التي تمثل حضارات الأمم وتاريخ شعوبها المتعاقبة. لتُعرض أمام الزائرين وتُقدَّم لهم لأغراض دراسية وبحثية وتعليمية وترفيهية. كما تغيرت النظرة إلى المتاحف بعد الثورة الفرنسية، حيث لم تعد مجرد معارض للفنون الجميلة، بل باتت مؤسسات تعليمية تهدف إلى تمكين الشعوب من تثقيف أنفسهم بأنفسهم.

 

مفهوم التربية المتحفية

ومن هنا نشأ مفهوم “التربية المتحفية”، الذي لم يلبث أن تطور ليصبح علمًا يدرّس ومهنة تمارس. بعد أن تبين بوضوح الدور التعليمي للمتحف في نشر المعرفة وترسيخ القيم الثقافية والمجتمعية. كما تساهم التربية المتحفية في دعم الاتجاهات الإيجابية داخل المجتمع، ونقل المعارف والأفكار وترسيخ الحقائق التاريخية المتعلقة. بحياة الجماعات ونظمها السياسية والاجتماعية، فضلًا عن توثيق تطور النشاط الإنساني عبر العصور.

 

دور مجتمعي

أما على الصعيد المجتمعي، فإن المتاحف تؤدي دورًا حيويًا في تنمية الوعي الثقافي والاجتماعي لدى الأفراد. ما يحتم على المؤسسات التربوية والثقافية اعتماد التربية المتحفية في مناهجها وبرامجها التربوية، باعتبارها استثمارًا ثقافيًا فعّالًا ومنخفض التكلفة. فهي تساعد الأبناء على التعرف على تاريخ وطنهم، وترسيخ انتمائهم وهويتهم. كما تسهم في بناء شخصيتهم القومية من خلال التمييز بين أصالة ثقافتهم وتنوعها واختلافها عن الثقافات الأخرى.
بينما توفر الزيارات الأسرية أو المدرسية للمتاحف بيئة غنية بالخبرات البصرية والمعلوماتية. تتيح للطفل فرصة التفاعل الواعي مع المعروضات. فهو لا يكتفي بالمشاهدة، بل يُثار تفكيره، ويتساءل، ويحلل، ويعبّر عن آرائه، ليخرج في نهاية المطاف باستنتاجات ذاتية ترتكز على شواهد ملموسة. وهذا التفاعل مع الشواهد الحقيقية والإبداعات النادرة، التي يتعذر تصور صنعها بتقنيات بدائية، يعزز في نفسه احترام الفن والإبداع البشري.

 

تجربة تعليمية مشوقة

وبخلاف أساليب التعليم التقليدي القائمة على التلقين، توفر المتاحف تجربة تعليمية مشوقة للأطفال خلال العطل المدرسية، حيث يقضون وقت فراغهم في أنشطة تجمع بين الفائدة والمتعة، وتعرض مواقف من الحياة اليومية بأسلوب غير مباشر وجذاب. الأمر الذي يبعث في نفوسهم شعورًا عميقًا بالسعادة الفكرية، ويعزز حب المعرفة لديهم.

 

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، تتزايد الحاجة إلى مؤسسات ثقافية تعزز من الوعي المجتمعي. وتربط الإنسان بجذوره وهويته الحضارية. من بين هذه المؤسسات، تحتل المتاحف موقعًا محوريًا، ليس فقط كأماكن لعرض التحف والآثار. بل كمراكز حيوية للتربية والتثقيف، ولصيانة الذاكرة الجماعية للأمم والشعوب.
كما بات من الضروري إنشاء أقسام تعليمية داخل المتاحف، تعنى بتكوين طلاب وموجهين قادرين على التواصل مع الزائرين. من مختلف الفئات العمرية، من خلال برامج تربوية معدّة بعناية، هدفها التأثير المباشر في تشكيل وعي الأفراد. بينما تسهم هذه البرامج في تزويد الزائرين، والباحثين خصوصًا. بمعلومات دقيقة وشاملة عن موضوعات المتحف ومقتنياته، ما يثري التجربة المعرفية ويعمّق الفهم الثقافي.

التربية المتحفية والاستثمار في الوعي

كما تلعب المتاحف دورًا تربويًا وتعليميًا بالغ الأهمية، إذ تساهم فيما يُعرف بـ”التربية المتحفية”. وهي نوع من التعليم غير النظامي الذي يركز على ربط الأفراد بتراثهم البيئي والتاريخي. ففي متاحف التاريخ الطبيعي مثلًا، يمكن للمرشدين التربويين استغلال المعروضات لعرض التحديات البيئية، وتوعية الأطفال والشباب. بأهمية الحفاظ على البيئة من التلوث، وترسيخ قيم حماية الطبيعة والموارد.
ويعد المتحف هو مشروع لحماية الذاكرة الجماعية من التزييف والنسيان، والقطع النادرة المعروضة داخله ليست مجرد آثار صامتة. بل شواهد حية تروي تاريخ الأمم وتغذي شعور الانتماء لدى الناشئة. من هنا، تأتي أهمية إدماج المتاحف في الحياة اليومية للمجتمع، خاصة في المدارس والجامعات والمراكز الشبابية والثقافية. وتشجيع زياراتها بتسهيل الوصول إليها، وخفض رسوم الدخول، وتنظيم حملات توعوية لتعزيز الوعي المتحفي.

 

التكنولوجيا في خدمة الثقافة

ومع تطور التكنولوجيا، أصبح لزامًا على إدارات المتاحف أن تواكب هذا التحول الرقمي، عبر إدخال الشاشات التفاعلية، وإنشاء مكتبات رقمية متكاملة. وربط المتحف بالإنترنت عالي السرعة، بما يسهل على الزوار التفاعل مع المعروضات. كما ينصح بإنشاء مواقع إلكترونية لكل متحف، لتكون نافذة تواصل ديناميكية مع الجمهور. ونقطة انطلاق لمبادرات ثقافية وتربوية واسعة.

اليوم، لم تعد المتاحف محصورة في التاريخ والآثار، بل امتدت إلى تخصصات دقيقة مثل: متاحف الإنسان، متاحف الأسماك، المتاحف العسكرية، متاحف السيارات والطيران، ومتاحف الكائنات الحية كالبرمائيات والزواحف، وأخرى للابتكارات العلمية والفضاء. هذا التنوع يحفز مخيلة الأطفال، ويمنحهم فرصة فريدة لتوسيع آفاقهم المعرفية، ويزرع في نفوسهم مشاعر الدهشة والفضول العلمي.

قوة ناعمة للسلام والمواطنة

من خلال محتوياته، يسهم المتحف في بناء السلام الداخلي عند الأطفال، ويشجعهم على التمسك بالحياة، ويرسخ فيهم مفهوم “المقاومة الفكرية”. ضد مشاعر الغربة والاغتراب. وهو بذلك يشكل أداة تربوية متميزة تسهم في بناء الشخصية الوطنية، وتعمّق القيم الأخلاقية. وتمنح المتلقي أدوات لفهم الأحداث التاريخية وتفسيرها من زوايا موضوعية.
كما يكتسب الطفل الكثير من معارفه من خلال التجربة الحسية والمشاركة الفعلية. ولهذا، فإن زيارة المتاحف تُمكّنه من عيش تفاصيل التاريخ وملاحظة التحولات الحضارية عن كثب. فالمعرفة التي تكتسب من خلال التفاعل المباشر مع الأدلة المادية تترسخ في الذهن، وتسهم في تشكيل رؤية أكثر واقعية وحيوية للماضي والحاضر والمستقبل.

 

الرابط المختصر :